تمارس الدوائر السياسية في دولة الفاتيكان قواعد ديبلوماسية خاصّة بها تختلف عن أسلوب نظيراتها حيال لبنان، حيث درجت على العمل بهدوء ومن دون ضجيج أو توجيه رسائل مباشرة لجملة من المسائل التي تأخذها في الاعتبار مع الكنيسة المارونية وبقيّة المكوّنات الدينية التي تقيم معها علاقات ثابتة ومتقدمة. وإن كانت مواقف العواصم المعنيّة والمتابعة ليوميات المشهد اللبناني من عربية وأجنبية معروفة وظاهرة من دون التباس، فإن للفاتيكان رؤيته الخاصة وهو لا يخفي هواجسه غير المطمئنة على المسيحيين أولاً وكل اللبنانيين.
وينقل زوار ديبلوماسي فاتيكاني يتابع أوضاع لبنان بدقة منذ سنوات عدة أن دولته “أكثر من قلقة” من التخبّط الحاصل في أكثر من قطاع في البلد نتيجة عدم تمكن كتله النيابية من انتخاب رئيس الجمهورية الى اليوم. ولا تخفي عاصمة الكثلكة في العالم عدم ارتياحها للخلافات المفتوحة بين الزعماء المسيحيين وانعكاس هذا الأمر سلباً على استحقاق الرئاسة. ويراقب الفاتيكان بعناية شديدة مسار عمل المجموعة “الخماسية” وما حققته الى اليوم في انتظار الحصيلة التي سيصل إليها الموفد الفرنسي جان إيف لودريان بالتعاون مع الجهات الدولية الأخرى صاحبة التأثير في لعبة الرئاسة وإن كانت هذه المهمّة من مسؤولية اللبنانيين أولاً الذين اعتادوا في محطات عدة تدخل الخارج في محطاتهم الرئاسية والحكومية والنيابية.
من هنا تبقى حركة “الخماسية” ومعاينتها تحت مجهر الفاتيكان.
وكان مسؤول فرنسي قد تلقى استفساراً على شكل سؤال من نظيره الفاتيكاني عن صحة ما إن كانت باريس تخالف المجموعة الأكبر من الكتل والشرائح المسيحية على حساب مرشّح باريس الوزير السابق سليمان فرنجية من دون تسميته.
ويرجع مردّ القلق الفاتيكاني الى ارتفاع الجدران بين الأفرقاء في لبنان وعدم التلاقي في ما بينهم. ولا يخفي هذا الديبلوماسي أيضاً اعتراض بلاده على جملة من الطروحات التي تدعو الى الفيديرالية وقوله إن المسيحيين لا يمكن أن يعيشوا في جزر منعزلة عن الآخرين. ويشدد على التمسّك باتفاق الطائف زائد دعوته الى حوار مع “حزب الله” وعدم إقفال الأبواب معه، في وقت تعلن فيه قوى مسيحية مؤثرة في بيئتها أنها ترفض أي حوار مع الحزب على عكس بكركي التي تحرص على التواصل معه ولو تخللت علاقتهما مساحة من المدّ والجزر، إلا أنهما يحرصان على الإبقاء على هذه العلاقة وعدم انقطاعها.
ولا يمكن هنا فصل علاقة رأس الكنيسة المارونية مع “حزب الله” مع العلاقة الإيجابية التي تربط المسؤولين في الفاتيكان مع المؤسستين السياسية في طهران والدينية في قم منذ انتصار الثورة الإسلامية في ايران عام 1979. ولذلك من غير المستغرب إبقاء الحزب على قنواته مع السفارة البابوية في بيروت حتى لو كان على قطيعة مع بكركي في بعض الأحيان. وفي لحظة أي كباش طائفي في لبنان لا يخرج الفاتيكان عن ثوابت استمراره في مواصلة انفتاحه وحواراته مع المكوّنات الدينية السنية والشيعية والدرزية ومتابعة علاقاته مع نخب هذه الطوائف وعدم اقتصارها على رجال الدين أيضاً. ولا يرى الفاتيكان أي فائدة من حصول أي تباعد بين اللبنانيين. ويعتبر أن أي تراجع لدور المسيحيين في لبنان ينعكس سلباً على عمق وجودهم في الشرق وخصوصاً في سوريا والعراق بعد شريط مأساتهم الطويل في القدس والأراضي الفلسطينية. ولذلك لا تقدم الديبلوماسية الفاتيكانية على قبول أي سياسة تدعو الى التقسيم أو ممارسة الانقطاع عن الآخرين من أي جهة جاءت.
لذلك يصر الفاتيكان على رؤية مصلحة المسيحيين بـ”المكبّر” وعدم حشرهم في كانتونات على أن يكونوا مع جميع اللبنانيين صفاً واحداً في الحفاظ على رسالة التنوّع في لبنان ليكونوا جميعهم في موقع المؤتمن عليها.
ومن المفارقات هنا بحسب وزير ماروني سابق مشاهدة عدم تلاقي زعماء موارنة مع الفاتيكان في بعض المرات لدرجة أن أقطاباً ورؤساء جمهورية من الموارنة لم يكونوا على سياسة وئام دائم مع الفاتيكان. ويرجع هذا الأمر الى استقلالية الموارنة وتعلقهم بها.
ويبقى أن جميع الأفرقاء يتعاطون مع الفاتيكان باحترام وتقدير كبيرين نظراً الى حجم تأثيره السياسي والمعنوي الى جانب الديني بالطبع.