عُقد في العاصمة المجرية مؤتمر بعنوان “مستقبل لبنان من منظور مسيحي”، حيث افتتح وزير الخارجية والتجارة المجري بيتر سييارتو الجلسة بالإعلان عن مساهمة مالية من المجر لدعم المسيحيين في لبنان، تهدف إلى إنشاء برامج تسهم في بقاء المسيحيين في لبنان، وخلق فرص عمل، ودعم قطاعات التعليم والمراكز الطبية والدينية. وسيتم تنظيم هيكلية الصندوق وتعيين أعضاء مجلس إدارته خلال اجتماع لاحق في الأشهر المقبلة.
مشاركة واسعة لشخصيات سياسية وأكاديمية
شارك في المؤتمر نواب لبنانيون وأحزاب سياسية بارزة، منها حزب الكتائب ممثلاً بـسامي وناديم الجميل، حزب القوات اللبنانية، التيار الوطني الحر، وحزب الاتحاد السرياني العالمي ممثلاً بـأمين إسكندر. كما شاركت منظمات داعمة للفيدرالية، مثل المؤتمر الفيدرالي المستمر بقيادة ألفريد رياشي، ومنظمة لبنان الفيدرالي بقيادة إياد بوستاتي، إلى جانب أكاديميين وإعلاميين وممثلين عن منظمات غير حكومية. كما كان هناك حضور بارز لعضو البرلمان السويدي السرياني يوسف آيدن.
البطريرك الراعي: ضرورة بقاء المسيحيين في أرضهم
حضر البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي إلى بودابست للمشاركة في المؤتمر، لكنه لم يتمكن من إلقاء كلمته بسبب وعكة صحية طفيفة، فقرأها نيابة عنه المطران مور بول صياح.
في كلمته، أشاد البطريرك بمبادرة الحكومة المجرية لتنظيم المؤتمر، مؤكدًا أن الأزمات التي يواجهها لبنان كثيرة، خاصة مع قربه من بؤر الصراع في سوريا وفلسطين وإسرائيل، مما يدفع الشباب المسيحي إلى الهجرة بحثًا عن مستقبل أفضل.
وأضاف أن المؤتمر ومخرجاته يمكن أن تسهم في إبقاء المسيحيين في وطنهم، وهي قضية لا تخص لبنان وحده، بل تمتد إلى الشرق الأوسط بأكمله. وأكد أن لبنان، بتنوعه الاجتماعي، يمثل نموذجًا للتعايش ويمكن أن يلعب دورًا في ترسيخ السلام والحوار في المنطقة. واستشهد بقول البابا يوحنا بولس الثاني:
“لبنان ليس مجرد بلد، بل هو رسالة.”
إياد بوستاتي: لا ثقافة بلا وطن
أشار إياد بوستاتي من منظمة لبنان الفيدرالي إلى أن العلاقات بين المجر ولبنان تعود إلى حوالي 200 عام، عندما صاغ رئيس وزراء الإمبراطورية النمساوية-الهابسبورغية أول دستور للبنان، مما أدى لاحقًا إلى إقرار الدستور الناجح لعام 1861.
وردًا على سؤال حول كيفية هيكلة الصندوق المالي المجري المقترح، شدد بوستاتي على ضرورة أن يكون له هدف واضح ومبادئ محددة، مضيفًا: “نحن نموت. خلال 20 إلى 30 عامًا، لن يكون هناك وجود مسيحي مؤثر في لبنان. إذا حدث ذلك، سينتهي إرث يمتد لستة آلاف عام من الحضارة الفينيقية، وألفي عام من الوجود المسيحي، وألف وستمائة عام من التاريخ السرياني الماروني.”
وأضاف: “نريد البقاء، ويجب أن نفعل كل شيء لتحقيق ذلك. مجرد ضخ الأموال لن يحل المشكلة. المشكلة الحقيقية هي أن البنية الدستورية المركزية لعام 1926 لا تتناسب مع التركيبة الاجتماعية للبنان. لبنان بلد متعدد القوميات والثقافات، والنظام الدستوري الحالي يخنق أي أقلية غير مهيمنة. الحل الوحيد هو الدستور الفيدرالي، الذي سيمكن جميع مكونات البلاد من تحقيق الاكتفاء الذاتي، والشعور بالانتماء، وعدم الاضطرار إلى تزوير هويتهم.”
واقتبس بوستاتي قول البابا يوحنا بولس الثاني:
“الثقافة أولًا. لا يوجد وطن بدون ثقافة، ولا ثقافة بدون وطن. المسيحية لا يمكن أن تستمر إلا في إطار حضارتها الخاصة.”
وفي حديثه عن الصندوق المالي المجري، شدد على أنه يجب أن يكون له رسالة واضحة ومحددة، بحيث يكون كل مستفيد من الأموال ملزمًا بالالتزام بهذه الرؤية.
واختتم بالقول: “المسيحيون في لبنان بحاجة إلى مشروع سياسي ورسالة. لا يمكنهم البقاء بدون هدف واضح، وإلا فسوف يختفون من التاريخ.”
حزب الاتحاد السرياني العالمي: الفيدرالية الجيو- ثقافية هي الحل
ضمن جلسة “الرؤى السياسية”، ألقى أمين إسكندر، ممثلًا رئيس حزب الاتحاد السرياني العالمي إبراهيم مراد، كلمة تحليلية حول التحديات التي تواجه الوجود المسيحي في لبنان.
أوضح إسكندر أن لبنان، منذ إعلان دولة “لبنان الكبير” في العشرينيات، تعرض لرفض مستمر من جهات اعتبرته كيانًا مصطنعًا لا يتوافق مع رؤية “الأمة الإسلامية” أو مشروع “الدولة العربية الكبرى”.
وأشار إلى أن المسيحيين واجهوا منذ البداية اضطهادات متكررة ومجازر ومحاولات مستمرة لإضعاف وجودهم، مما أدى إلى اختلال التوازن الديموغرافي في البلاد. كما أن اتفاق الطائف عام 1989 رسخ تحول لبنان إلى بلد عربي، وساهم في تقليص النفوذ السياسي للمسيحيين.
وأكد أن الاختلال الديموغرافي بين المسيحيين والمسلمين أصبح اليوم غير قابل للعكس، وهو السلاح الأساسي الذي يستخدمه الإسلاميون لتهديد الوجود المسيحي.
إعادة الاعتبار للهوية المسيحية
أشار إسكندر إلى أن المسيحيين في لبنان ارتكبوا أخطاء فادحة عندما سعوا للاندماج في محيطهم عبر التخلي عن لغتهم السريانية وتاريخهم وحلفائهم وهويتهم أحيانًا، مؤكدًا أن إنكار هذه الجذور لم يؤدِّ إلا إلى مزيد من الضعف والتفكك.
وفي ختام كلمته، شدد إسكندر على أن الحل الوحيد لمواجهة هذه التحديات هو تبني “الفيدرالية الجيو-ثقافية”، التي تمنح لكل مكون من مكونات لبنان حقوقه دون أن تتعارض مع التعايش المشترك.
نحو خطوات عملية
دعا مؤيدو النظام الفيدرالي منظمي المؤتمر إلى ضرورة أن تقدم كل وفد، في الاجتماع المقبل، مشروعًا سياسيًا ملموسًا، ليتم دراسته من قبل لجنة مختصة تتولى اعتماد رؤية ورسالة رسمية واحدة، يتم على أساسها تخصيص الموارد المالية للصندوق المجري.
يشكل هذا المؤتمر خطوة محورية في الجدل القائم حول مستقبل المسيحيين في لبنان، حيث يطرح أنصار الفيدرالية رؤية واضحة لحماية الهوية المسيحية، ويضعون مطالب محددة للجهات المانحة، مؤكدين أن بقاء المسيحيين في لبنان لن يتحقق من خلال المساعدات المالية وحدها، بل عبر مشروع سياسي يضمن حقوقهم واستمراريتهم.