ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس أحد تذكار الموتى في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، عاونه فيه المطرانان حنا علوان وانطوان عوكر، أمين سر البطريرك الاب هادي ضو، رئيس مزار سيدة لبنان _حريصا الأب فادي تابت ومشاركة عدد من المطارنة والكهنة والراهبات، في حضور حشد من الفاعيات والمؤمنين.
بعد الانجيل المقدس، القى الراعي عظة بعنوان: “عندهم موسى والأنبياء، فليسمعوا لهم” (لو 16: 29)، قال فيها: “تذكر الكنيسة في هذا الأحد وتصلّي طيلة الأسبوع لراحة نفوس الموتى المؤمنين. فنذكر بالصلاة وأعمال الرحمة أمواتنا الذين تجمعنا بهم شركة القدّيسين. يذكّرنا الربّ يسوع في إنجيل اليوم بأنّ في مسيرتنا على الأرض، كلّ واحد وواحدة منّا مدعوّ ليهيّء خلاصه الأبديّ بعيش المحبّة الإجتماعيّة وإشراك المحتاجين والفقراء بما يملك أكثيرًا كان أم قليلًا. في هذا المسار يشكّل الكلام الإلهيّ نورنا الهادي. فلمّا طلب ذاك الغنيّ المعذّب في نار جهنّم من إبراهيم أن يرسل لعازر المسكين المتلألئ في مجد السماء، إلى إخوته الخمسة ليبدّلوا طريقة حياتهم، أجابه إبراهيم: “عندهم موسى والأنبياء، فليسمعوا لهم” (لو 16: 29). يعرف الله ضعفنا وسرعة سقوطنا في الخطايا حتى نسيانه وتغييبه، والتصرّف بالأنانيّة والجشع والطمع، فوهبنا كلامه لينير دروبنا، بلسان موسى والأنبياء، وفي ملء الزمن بالكلمة المتجسّد يسوع المسيح وبإنجيله، وبتعليم الكنيسة، فضلًا عن كلامه لكلّ واحد وواحدة من الناس بصوت ضميره، الذي هو صوت الله في أعماق الإنسان، ينبّهه باستمرار: “إفعل هذا، ولا تفعل ذاك”. يُسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة التي نقدّمها لراحة نفوس موتانا وسائر الموتى المؤمنين. ونضمّ إليها أعمال الرحمة والمحبّة. وإنّي أعرب عن تعازي القلبيّة لكلّ الذين واالواتي فقدوا عزيزًا عليهم في هذه السنة المنصرمة. وأخصّ بالذكر عائلة المرحوم شكرالله جريس سبع الحاج الحاضرة معنا. وقد ودّعناه معهم ومع أهالي بقعتوتة العزيزة منذ أسبوعين. أحيّي من بين أبنائه وبناته عزيزنا ريمون رئيس بلديّة بقعتوته، وعزيزتنا هند رئيسة إقليم أخويّات نيابة صربا البطريركيّة وإبنها ولدنا الأب شربل الراهب اللبنانيّ المارونيّ. كما احيي الوفد الحاضر بيننا من متقاعدي الضابطة الجمركية. وإذ أرحّب بكم جميعًا، أوجّه تحيّة خاصّة إلى سعادة السفير رومانوس رعد، ونهنّئه على رفعه إلى رتبة لواء في الأنتربول المركزيّ التابع للأمم المتّحدة، مع مهمّة الممثّل العام لمكتب المنظّمة في لبنان”
وتابع: ” في تذكار الموتى نتذكّر: أنّنا وُلدنا لنموت. هذه الحقيقة على مرارتها تنجلي في ضوء سرّ الكلمة إبن الله الذي “تجسّد من أجلنا ومن أجل خلاصنا” وينجلي في ضوئها لغز الإنسان في حياته وموته (راجع الكنيسة في عالم اليوم، 10 و22). الولادة والموت مترابطان ترابطًا عضويًّا بتكامل لا ينفصم. فالولادة من حشى الأمّ هي بداية وجود تاريخيّ وأبديّ. الموت هو نهاية الوجود التاريخيّ وبداية الوجود الأبديّ. يعلّم السيّد المسيح هذه الحقيقة في مثل الغنيّ ولعازر. في الوجود الأوّل التاريخيّ عاش الغنيّ في عبادة ذاته وماله وجشعه وأنانيّته وإهماله للعازر المسكين المطروح أمام باب دارته. فكان وجوده الثاني الأبديّ هلاكًا في جهنّم النار. أمّا لعازر المسكين فقضى وجوده الأوّل في الصبر والإحتمال والتسليم، ومن دون أن يثور على الغنّي ويسيئ إليه. فكان وجوده الثاني خلاصه الأبدي في مجد السماء. ليست مشكلة الغنيّ في غناه، والغنى من نعم الله وبركاته، ولا في ملكيّته، فهي حقّ طبيعي للإنسان أقرّته الشرائع الإلهيّة والبشريّة (البابا لاون الثالث عشر: الشؤون الحديثة، 6-8)، بل في عبادة ملكيّته وثروته. فكان الغنى الإله الأكبر عنده، إذ راح يبحث عن سعادته في غناه واكله وشربه وتباهيه لا في الله. نقرأ في التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة: “الغنى في يومنا هو الإله الأكبر؛ ويؤدّي له الناس إكرامًا عفويًّا. إنّهم يقيسون السعادة بمقياس الغنى، وبمقياس الغنى أيضًا يقيسون الكرامة، لإعتقادهم أنّ الإنسان الحاصل على الثروة يقدر على كلّ شيء. الغنى إذن صنم من أصنام اليوم (فقرة 1723). ولعازر المسكين لم ينل الخلاص لأنّه فقير؛ فالله كلّيّ الجودة لا يريدنا فقراء بمعنى العوز والحرمان، بل يريدنا فقراء بالروح، غير متعلّقين بأموال هذه الدنيا حتّى عبادتها، ومتجرّدين، وكأنّنا “لا نملك شيئًا فيما نحن نملك كلّ شيء” (2 كور 6: 10). نال لعازر الخلاص لأنّه ارتضى حالة الفقر، وصبر على محنته، وحمل صليبه دونما اعتراض، واتّكل على عناية الله. إنّ إنجيل الغنيّ ولعازر يستدعي وقفة ضمير أمام الله من قبل من أنعم الله عليهم بخيرات وأموال، إمّا بجهدهم الشخصيّ الشرعيّ، وإمّا بالوراثة العائليّة. هؤلاء مدعوّون لمساعدة الفقراء بشكل منتظم. تعلّم الكنيسة: “أنّ خيرات الأرض معدّة من الله لجميع الناس”، وبالتالي “أنّ الملكيّة الخاصّة مقيّدة برهن إجتماعيّ”. من هذا المنطلق قال القدّيس يوحنّا فم الذهب: “إنّ الإمتناع عن إشراك الفقراء في خيراتنا الخاصّة هو سرقة حقوقهم، واستلاب حياتهم. فالخيرات التي نحوزها ليست لنا، بل هي لهم”.
وقال: “أمّا الفاسدون الّذين كدّسوا الأموال بسرقة المال العام والتحايل والغنى غير المشروع والتهرّب الضريبيّ، فليعلموا أنّهم لا يستطيعون تحدّي الله برسومه ووصاياه، بكتبه المقدّسة والإنجيل. وليعتبروا أنّ للوجود التاريخيّ سنوات معدودة، أمّا للوجود الأبديّ فلا نهاية. فليهيّؤوه بعيش أفضل. لقد اعتبرنا منذ بداية حرب إسرئيل على غزّة بالشكّل الوحشيّ الذي رأيناه ونراه، إنّها حرب إبادةٍ للشعب الفلسطينيّ، وتصفيةٍ لقضيّتهم. وأدنّاها تكرارًا. ودعونا إلى التقيّيد بالقرار 1701 من الجانبين الإسرائيلي واللبنانيّ، حمايةً لبلدات الجنوب الحدوديّة من القصف والقتل والتهجير والتدمير. وإنّا لم نتوقّف يومًا عن المطالبة بوقف النار نهائيًّا والذهاب إلى التفاوض والحلول السياسيّة والديبلوماسيّة بهدف تثبيت حلّ الدولتين. ربّما لا يتذكّر الجميع أو لا يعرفون أنّ قرار إنشاء دولة خاصّة بالفلسطينيّين إلى جانب دولة إسرائيل يرقى إلى القرار 181 الصادر عن جمعيّة الأمم المتّحدة العامّة في 29 تشرين الثاني 1947. وقد قسم هذا القرار فلسطين إلى دولتين: دولة عبريّة ودولة عربيّة، ورسم حدود كلّ من هاتين الدولتين. واعتبر القرار مدينة القدس مع عشرات الكيلومترات “جسمًا منفصلًا” (corpus separarum)، خاضعًا لنظام دوليّ برعاية الأمم المتّحدة. وسارعت دولة إسرائيل إلى إقرارها عضوًا في منظّمة الأمم المتّحدة. ولكن بالمقابل لم تتكوّن الدولة الخاصّة بالفلسطينيّين حتى يومنا هذا. غير أنّ المساعي الدوليّة تطالب بإنشائها في ما يُعرف “بحلّ الدولتين”. والكلّ يعلم أنّه شرط أساسيّ لإنهاء الحرب الدائرة على أرض فلسطين. هنا ينتظر من لبنان أن يقوم بدور الوسيط سياسيًّا ودبلوماسيًّا وفقًا لرسالته. فلا يستطيع القيام بهذا الواجب طالما أنّه محروم من رئيس للدولة، وأنّه فقد الحياد بإقحامه في حروب ونزاعات إقليميّة لا يريدها”.
وأردف: “بحرمان لبنان من رئيس انكشفت النيات من خلال نتائج الفراغ: كتحويل لبنان في الممارسة من دولة تفصل الدين عن الدولة إلى دولة دينيّة طائفيّة مذهبيّة، كما نشهد في التعيينات عامّة والقضائيّة خاصّة، حيث أصحاب السلطة يتجاوزونها ويتدخّلون سياسيًّا، ويلغون فصل السلطات خلافًا للدستور، ويعطّلون مسيرة القضاء. فنقول لهم: إرفعوا أيديكم عن القضاء، لكي تسلم العدالة التي هي أساس الملك. في أزمة الفراغ الرئاسيّ نقتبس من إفتتاحيّة النهار (11 آب 2022) للمرحوم الوزير السابق سجعان قزّي، بعنوان “رئيس الخصوصيّة اللبنانيّة”. نقرأ: “إذا كان الميثاقُ الوطنيُّ عَهِدَ بالرئاسةِ إلى مارونيٍّ فليس للاعترافِ بدورِ الموارنةِ في تأسيسِ دولةِ لبنان الحديثةِ فقط، بل لكي يُعزِّزَ هذا الرئيس ـــــ الذي يُفترضُ أن يكونَ شخصيّةً استثنائيّة ــــ المميّزاتِ الحضاريّةَ والديمقراطيّةَ التي تُشكِّلُ الخصوصيّةَ اللبنانيّة. خلافُ ذلك لا قيمةَ لرئيسٍ مارونيٍّ في جُمهوريّةٍ فَقدَت حضارتَها أو أُلحِقَت بخصوصيّاتِ الأنظمةِ الاستبداديّةِ والشموليّةِ القريبة، فلا يَنجح أيُّ رئيسٍ مارونيٍّ في قيادةِ لبنان والحفاظِ على توازناتِه وخصوصيّاتِه ما لم يكن نُخبويًّا ومُعمَّدًا بـــ”مَيْرون” الثقافةِ والفكر، ورئيسًا مارونيًّا يكون في سجلّ الشرف، لا في سجلّ النفوس” ويضيف: “دورُ رئيسِ الجمهوريّةِ الجديد، أن يَسعى إلى إحياءِ القواسمِ المشترَكةِ بين اللبنانيّين إذا كان الأمرُ مُتاحًا بَعد. وأوّلُ تلك القواسم وثيقةُ “فعلِ إيمانٍ وحبّ وولاء” للبنان كوطن نهائيّ لكلّ أبنائه. حتى الآن كلُّ مكوّنٍ لبنانيٍّ رَهَنَ محبتَهُ للبنان بأن يكونَ لبنانُ على قياسِه لا في أن يكونَ هو على قياسِ لبنان. يُخطئ كلُّ مكّونٍ حين يَعتبرُ أن دورَه يَتعزّزُ حين يَحصُل على حِصّةٍ دستوريّةٍ أوسعَ، أو حينَ يُنشِئُ جيشًا مذهبيًّا خاصًّا به. الحقيقةُ أنَّ أدوارَنا الوطنيّةَ تَتعزّز فعليًّا حين يَتّسِعُ دورُ لبنان. فما قيمةُ الأدوارِ والحِصَصِ في دولةٍ ممزَّقةٍ ومُستَضعفَةٍ إلا إذا كان الهدفُ بناءَ “مُـجَـمَّـعاتٍ” لبنانيّةٍ تَخلِفُ الوطنَ الواحد”. (إنتهى الإقتباس). وهذا ما نرفضه ونحذّر منه”.
وختم الراعي: “فلنصلِّ، لكي يسلم لبنان، ويستعيد هويّته ودوره في بيئته والعالم، لمجد الله، الآب والإبن والروح القدس إلى الأبد، آمين”.
بعد القداس، استقبل الراعي المؤمنين المشاركين في الذبيحة الإلهية.