وجه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي رسالة الصوم الرابعة عشرة بعنوان “إرجعوا إلى الله بكل قلوبكم” (يوئيل 2: 12)، جاء فيها:
“يسعدني أن أتناول في رسالة الصوم دعوة الله لنا ولجميع الناس على لسان يوئيل النبي: “إرجعوا إلى الله بكل قلوبكم” (يوئيل 2: 12). الصوم زمن الرجوع إلى الله من كل القلب بروح التوبة والتقشف، وإلى بعضنا البعض بروح المصالحة والتعاون، وإلى إخوتنا وأخواتنا الذين في حاجة بمد يد المساعدة الحسية والروحية والمعنوية إليهم.
أولا- الصوم زمن الرجوع إلى الله.
يدعونا الله في زمن الصوم المليء بالأصوام والصلوات والتقشفات وسماع كلام الحياة لنرجع إليه. فهو ينتظرنا بمحبة الأب، كما انتظر الأب إبنه الضال واستقبله عند رجوعه بذراعين مفتوحين، وبقبلات الحب، وبوليمة الفرح. فلا نسقطن في تجربة التأجيل. فدعوة الله ملحة لخلاصنا وسعادتنا الحقيقية. لا يكفي هذا الرجوع بالكلام والنية والتمني والوعد. فلا رجوع إلا بالفعل.
بدأنا رجوعنا يوم قبلنا وسم الصليب بالرماد على جباهنا في صباح اليوم الأول من الصوم الكبير، المعروف بإثنين الرماد. بهذه العلامة أقرينا “أننا تراب وإلى التراب نعود” (تك 3: 19). أقرينا أننا ضعفاء وسريعو العطب، وأننا بحاجة إلى أن يحيينا الله بروحه القدوس معطي الحياة، ويجدد خلقنا، مثلما فعل في الخلق الأول إذ “جبل الرب الإله الإنسان ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة” (تك 2: 7).
لا شك عندنا في أن شعبنا المؤمن يتهافت إلى الكنائس والأديار ليتبركوا بوسم الصليب من رماد على جباههم، ويأخذوا من الرماد المبارك إلى بيوتهم لمرضاهم والمسنين، كعلامة لتوبتهم عن خطاياهم. نقول “علامة” للتأكيد أن الحاجة تبقى إلى التقرب من سر الإعتراف لله عن خطايانا بواسطة الكاهن الذي باسم الثالوث القدوس وبالسلطان الكهنوتي المعطى له يمنح الغفران للخطايا المعترف بها. فكما أننا بالتواضع نحني رؤوسنا ونقبل وسم الرماد المبارك، كذلك بالتواضع عينه ننحني أمام الكاهن خادم السر المقدس لنتصالح مع الله ومع ذواتنا ومع بعضنا البعض. عندئذ تتم فينا كلمة أشعيا النبي: “لأمنح التائبين التاج بدل الرماد، وزيت الفرح بدل النوح، وحلة التسبيح بدل الإعياء” (أش 61: 3).
في اليوم الأول من الصوم، بدأنا المسيرة من “الرماد إلى الحياة” بفضل تقشفات الصوم، ورجوع القلب إلى الله بالتوبة والمصالحة والشفافية والإبتعاد عن الإزدواجية التي يمقتها الرب يسوع (راجع متى 16: 2، 6). إننا بذلك نلبي دعوة بولس الرسول الملحة: “نحن الآن سفراء المسيح، ووضع فينا كلمة المصالحة. كما أن الله يدعوكم على يدنا، فنحن الآن نستحلفكم أن تصالحوا الله، لأجل المسيح، الذي لم يكن يعرف الخطيئة، وقد جعله الله خطيئة لأجلنا، لنصير به بر الله” (2 كور 5: 20-21). بهذه الروح والمسؤولية ندعو أحباءنا كهنة الرعايا ليؤمنوا، على الأخص طيلة زمن الصوم، خدمة سر المصالحة، وليعملوا بالتعاون مع غيرهم لتأمين هذه الخدمة لأكبر عدد ممكن من أبناء رعاياهم وبناتها. فيرتاح ضميرهم الكهنوتي ويرضوا الله الذي أتى إلينا بشخص الإبن متجسدا، لكي نذهب نحن إليه، ونلتقيه في هذه الدنيا.
الصوم زمن الرجوع بعضنا إلى بعض. عندما نتصالح مع الله في سر التوبة، نتذوق قيمة المغفرة والمصالحة، ونشعر أننا بحاجة إلى المصالحة مع الآخرين. فصحيح القول: “سلام مع الله سلام مع الخليقة كلها”. وقد أوصانا الرب يسوع بهذه المصالحة في أكثر من مكان.
أ- في صلاة الأبانا التي علمها لتلاميذه ونحن نتلوها كل يوم، حيث نصلي: “أغفر لنا ذنوبنا، كما نحن نغفر لمن أخطأ إلينا … فإن تغفروا للناس زلاتهم، يغفر لكم أبوكم السماوي أيضا. وإن لم تغفروا للناس، فأبوكم أيضا لا يغفر لكم زلاتكم”(متى 6: 12 و14-15).
ب- وعند تقدمة الذبيحة لله، يعتبر الرب يسوع أن المصالحة أهم من الذبيحة، بل تجعلها مقبولة من الله. فيقول: “إذا كنت تقدم قربانك على المذبح، وتذكرت هناك أن لأخيك عليك حقدا، فدع هناك قربانك على المذبح، واذهب أولا فصالح أخاك، ثم عد وقرب قربانك” (متى 5: 23-24). وقال في موضع آخر: “أريد رحمة لا ذبيحة” (متى 12: 7).
ج- ولما سأله بطرس: “كم مرة، إذا خطئ إلي أخي، أغفر له، أإلى سبع مرات؟” فقال له يسوع: لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات!” (متى 18: 21-22). بهذا الجواب أكد الرب يسوع أن المصالحة هي مصدر الفرح الحقيقي على قلب من يصالح وقلب من يتقبل المصالحة، وبخاصة على قلب الآب السماوي. وهذا ما يؤكده الرب يسوع في معرض حديثه عن الفرح في السماء بعودة خاطئ يتوب. في مثل إيجاد الخروف الضال (راجع لو 15: 4-7)، وفي مثل إيجاد الدرهم الضائع (لو 15: 8-10)، وفي مثل عودة الإبن الضال (راجع لو 15: 11-23).
إن أهم واجبات الكنيسة، برعاتها وأبنائها وبناتها، إعطاء المثل في عيش المصالحة فيما بينهم ومع الناس، وبخاصة في حالات الإساءة والشر. فالمصالحة تنبع من الرحمة التي نتعلمها من الله “الغني بالرحمة” (أفسس 2: 4).
إن مجتمعنا اللبناني عامة والجماعة السياسية خاصة يعانون من انقسامات ونزاعات وبغض وكيدية يدفع ثمنها لبنان والشعب اللبناني على كل المستويات: الإجتماعي والسياسي والدستوري والمالي والإصلاحي. فمن واجبنا جميعا، مع كل الأشخاص ذوي الإرادات الحسنة، العمل على إيقاف الخلافات وإزالة أسبابها، وتعزيز الإحترام المتبادل وإعادة الثقة المفقودة بين مكونات الوطن. وهكذا نعيش زمن الصوم الكبير المعروف بزمن المصالحات بدءا من العائلة، مرورا بالمجتمع، وصولا إلى الأحزاب والجماعة السياسية. عندما تتحقق المصالحة والثقة نستطيع أن نتعاون في إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وإنهاض اقتصادها، وتحريك تجارتها، وإحياء مصارفها وحركتها المالية.
الصوم زمن الرجوع إلى إخوتنا في حاجاتهم. كيف يعيش فرح عيد الفصح إخوتنا وأخواتنا وهم عائشون في قلق فقرهم وحاجاتهم وأوضاعهم الحزينة والمؤلمة. هؤلاء سماهم الرب يسوع “إخوته الصغار”، وقد تماهى معهم في آلامهم وحاجاتهم التي حددها بستة أنواع: الجوع والعطش والعري والغربة والمرض والأسر، ليس فقط بالمفهوم الجسدي، بل أيضا بالمفهوم الروحي والنفسي والثقافي والأخلاقي والإجتماعي (راجع متى 25: 31-46).
هؤلاء الإخوة هم بحاجة إلى مصالحة، إلى مصالحتنا من خلال مساعدتهم المادية والروحية والأخلاقية والمعنوية.
نصالح الجائع عندما نوفر له الطعام والسبل لكسبه بعرق جبينه من أجل كرامته. وعندما نؤمن له ما يجوع إليه كالعلم والعدالة والطموحات. نصالح العطشان عندما نوفر له الماء والسوائل. وعندما نؤمن له ما يروي ظمأه الروحي إلى سماع كلمة الله، أو ظمأه الإجتماعي إلى عدالة ومعرفة وعاطفة إنسانية. نصالح العريان عندما نوفر له الثوب والأثاث. وعندما نحمي صيته وكرامته. نصالح المريض عندما نزوره ونساعده على اقتناء الأدوية، وعلى الإستشفاء ومعالجة وضعه الجسدي أو النفسي أو العقلي أو العصبي، وعندما نعتني باحتياجاته الخاصة المعروفة بالإعاقة على مختلف أنواعها، ونعمل على انخراطه بمجتمعه بشتى الطرق، لا سيما بعد نيله الثقافة اللازمة لهذا الإنخراط. وعندما نساعد “المريض” أخلاقيا كالمتكبر والبخيل والمدمن على المخدرات وسواها. نصالح الغريب عندما نستقبله، وأيضا عندما يشعر أنه غريب في بيته وعائلته والمجتمع فنحادثه ونقاربه ونحل العقد التي يعاني منها. نصالح السجين الموقوف وراء القضبان عندما نزوره، ونستمع إليه، ونصغي لحاجاته ونعتني بتوفيرها. ونصالح سجين أمياله أو أشخاص أو إيديولوجيات أو مواقفه المتحجرة، عندما نساعده على التحرر منها.
توجيهات راعوية
أ- الصوم والقطاعة والاعفاء منهما: الصيام هو الإمتناع عن الطعام من نصف الليل حتى الظهر، مع إمكانية شرب الماء فقط، من إثنين الرماد (12 شباط) حتى سبت النور مساء (30 نيسان)، باستثناء الأعياد التالية: مار يوحنا مارون (2 آذار)، الأربعون شهيدا (9 آذار)، مار يوسف (19 آذار)؛ وشفيع الرعية؛ وباستثناء السبت والأحد من كل أسبوع، بحسب تعليم القوانين الرسولية (سنة 380). ففي السبت تذكار الخلق، وفي الأحد تذكار القيامة. تستثني هذه القوانين سبت النور ” لأن اليوم الذي كان فيه الخالق تحت الثرى، لا يحسن الإبتهاج والعيد، فالخالق يفوق جميع خلائقه في الطبيعة والإكرام”.
11. القطاعة هي الإمتناع عن أكل اللحم والبياض طيلة الأسبوع الأول من الصوم، وأسبوع الآلام، وفي كل يوم جمعة على مدار السنة، ما عدا الفترة الواقعة بين عيدي الفصح والعنصرة، والميلاد والدنح، والأعياد الليتورجية الواجبة فيها المشاركة بالقداس الإلهي مثل: الميلاد، والغطاس، وتقدمة المسيح إلى الهيكل، ومار مارون، ومار يوسف، والصعود، والرسولين بطرس وبولس، وتجلي الرب، وانتقال العذراء إلى السماء، وارتفاع الصليب، وجميع القديسين، والحبل بلا دنس، وعيد شفيع الرعية.
يعفى من الصوم والقطاعة على وجه عام المرضى والعجزة الذين يفرض عليهم واقعهم الصحي تناول الطعام ليتقووا وخصوصا أولئك الذين يتناولون الأدوية المرتبطة بأمراضهم المزمنة والذين هم في أوضاع صحية خاصة ودقيقة، بالإضافة إلى المرضى الذين يخضعون للاستشفاء المؤقت أو الدوري. ومعلوم أن الأولاد يبدأون الصوم في السنة التي تلي قربانتهم الأولى، مع اعتبار أوضاعهم في أيام الدراسة. هؤلاء المعفيون من شريعة الصوم والقطاعة مدعوون للاكتفاء بفطور قليل كاف لتناول الدواء، أو لمتابعة الدروس إذا كانوا تلامذة وطلابا. المعفيون مدعوون للتعويض بأعمال خير ورحمة ومحبة.
ب – القطاعات خارج زمن الصوم الكبير: تمارس القطاعة خارج زمن الصوم الكبير بحسب العادة التقوية، القديمة العهد، والمحافظ عليها في جميع الكنائس الشرقية، الكاثوليكية والأرثوذكسية، استعدادا لأعياد محددة وحصرنا كل واحدة بأسبوع تسهيلا للمؤمنين، وهي: قطاعة ميلاد الرب يسوع، من 16 إلى 24 كانون الأول، وقطاعة القديسين الرسولين بطرس وبولس من 21 إلى 28 حزيران، وقطاعة انتقال السيدة العذراء إلى السماء من 8 الى 14 آب.
ج – الصوم القرباني: هو الامتناع عن تناول الطعام ابتداء من نصف الليل قبل المناولة أو على الأقل ساعة قبل بدء القداس، استعدادا للإتحاد بالرب بمناولة جسده ودمه”.
وختم الراعي رسالته: “الصوم الكبير هو “الزمن المقبول” لدى الله. ولكونه زمن المصالحة بامتياز، فإنا ندعو للصلاة إلى الله لكي نتعلم منه، وقد صالحنا بموت ابنه يسوع فداء عن خطايانا، كيف نعيش بدورنا فرح المصالحة معه، ومع بعضنا البعض، ومع إخوتنا في حاجاتهم. مع دوام صلاتي ومحبتي وبركتي الرسولية”.