ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الميلاد على مذبح كنيسة الباحة الخارجية للصرح البطريركي في بكركي “كابيلا القيامة”.
بعد الانجيل ألقى الراعي عظة بعنوان “وُلد لكم اليوم مخلص هو المسيح الرب” (لو 2: 11) . وقال: “بهذه العبارة بشر الملاك رعاة بيت لحم بولادة مخلص العالم، المسيح الرب. وأعطاهم علامة: “تجدون طفلًا” ملفوفًا بالقماطات، وموضوعًا في مذود” (لو 2: 12). يا للتناقض: مخلص العالم طفل في مذود حقير! ويا للأمثولة لنا ولكل إنسان: أن التواضع ذروة التسامي، وأن الفقر الروحي غنىً نفيس. وقد أنشدته مريم يوم زيارتها لإليصابات: “تعظم نفسي الرب … لأنه نظر إلى تواضع أمته. فها منذ الآن يطوبني جميع الأجيال، لأن القدير صنع بي العظائم” (لو 1: 46-50). هذا النهج علمه الرب يسوع فيما بعد: “من واضع نفسه رُفع، ومن رفع نفسه أُنزل” (لو 14: 11). فلنخشع، أيها الإخوة والأخوات، أمام مغارة الميلاد، حيث نرى، بين الزينة والأضواء الجميلة، طفلًا وضيعًا فيه كل الله. أمامنا الله-الطفل. الله الخالق هو الآن في حضن أم، الكلمة الإلهية غير قادر على الكلام، الحب اللامتناهي له قلب صغير، خالق الشمس يحتاج إلى تدفئة، خبز الحياة يحتاج إلى طعام، خالق العالم محروم من بيت، الله يأتي إلى العالم الصغير، وعظمته تُقدم لنا في الصغر. فلنصغِ إلى ما يعلمنا بصمته ومثله. وليُحدث هذا الميلاد انقلابًا روحيا في حياة كل إنسان. فعالم الكبرياء والتباهي والإستقواء بحاجة إلى هذا الإنقلاب، وإلا ظلت الأوضاع مع مآسيها على حالها من الفساد واللا أخلاقية والظلم والإستبداد والحروب والنزاعات واللعب بمصير وطن وشعب وثقافة وتاريخ. فميلاد المسيح الرب بدأ في الإنسانية عهدًا جديدًا، هو عهد الحقيقة والعدالة والسلام، عهد الأخوة بين البشر، والبنوة لله بشخص الإبن الأزلي الذي صار إنسانًا مثلنا ليجعلنا أبناء الله”.
أضاف: “ولئن خنقت الغصة القلوب، وملأت الدموع العيون، لدى الحزانى والمتألمين من الجوع والحرمان والمرض؛ ومن الظلم والاستبداد، ولدى العائلات المنكوبة من جراء الحرب الابادية على غزة، ولدى عائلاتنا في جنوب لبنان بسبب امتداد هذه الحرب المشؤومة والمرفوضة الى بلداتهم وقراهم مع ما خلفت من قتلى وتدمير منازل وتخريب ممتلكات، فانا مع هذا كله، فيما نرحب بكم جميعًا وزراء ونوابًا ورسميين ونخص نقيب محامي بيروت الجديد المحامي فادي المصري وأعضاء النقابة، نقدم لهم ولكم اطيب التهاني، ونعلن معهم اعلان الرجاء والانفراج: وُلد المسيح، هللويا! وُلد لنا المخلص، “وُلد لكل واحد وواحدة منا ومن البشر، وُلد ليخلصنا من كل شر مادي وروحي ومعنوي واجتماعي. في كل حالة من حياتنا يقول: انا معك، لا تخف. انا خلاصك تشجع. انا اساعدك لا تيأس. لا تخف من الناس وشرهم، انا بقربك وانجيك من شرهم. فيا ليت جميع الناس، ولاسيما كل مسؤول في الدولة والكنيسة والمجتمع والعائلة يدركون ان بميلاد ابن الله انسانًا ظهرت محبة الله المجانية، وهي محبة خلاص وتجدد، ونعمة ميلاد الرب يسوع في نفوسهم. فميلاد المسيح المخلص حدث مرة واحدة، ولكنه ينتظر ان يولد في قلب كل مؤمن ومؤمنة يسمع الكلمة ويحفظها في قلبه ويعمل بها. فيظهر وجه المسيح في اقواله وتصرفاته ومواقفه ومبادراته، عندئذٍ يتغير وجه العالم والمجتمع. وهكذا المسيح-الكلمة يبقى في ميلاد دائم في كل شخص يؤمن به ويحبه”.
وتابع: “أسفنا لان ذلك لم يحدث على صعيد وطننا لبنان. كنا ننتظر تحولاً في نفوس المسؤولين وبخاصة في نفوس نواب الامة وتكتلاتهم، حملهم على انتخاب رئيس للجمهورية كفوءٍ، نظيف اليد، حر ومتجردٍ من اي مصلحة شخصية أو فئوية. انتظرناه منهم عيدية الميلاد، والسنة الجديدة 2024، ولكن بحسب المبدأ المعروف: “لا احد يستطيع ان يعطي ما لا يملك!” والامر لا يتوقف هنا، بل ثمة مؤسسة حيوية اخرى هي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي يطلق صرخة الاستغاثة. اسسه الرئيس فؤاد شهاب، وكان الاول في العالم العربي، واستمر نجاحه حتى الحرب المشؤومة سنة 1975. ثم راح ينهار شيئاً فشيئًا على كلٍ من الصعيد المالي، وتوظيف امواله، ومديونيته، وادارته، وتأخير مكننته، وحرمان المضمونين من فقدان التغظية الصحية. ان مأساة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بل عجزه المتفاقم على كل هذه الاصعدة بشكلٍ كارثي خطير ينذر بأقبح العواقب في ظل الانهيار الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة بشكل غير مسبوق. ومن المؤسف ان يكون هذا الوضع غائبًا عن الخطاب السياسي والنيابي، وضحية اللامبالاة، فيما ضمان صحة المواطنين وتقاعدهم ضرورة ملحة لقيامة لبنان، ولتأمين الامن الصحي والاجتماعي. وصلت الينا هذه الصرخة، ونحن بروح المسؤولية الشخصية المتضامنة نرفعها الى المسؤولين، ولا سيما الى الحكومة كسلطة اجرائية”.
وقال: “في زمن الرجاء الميلادي نتمسك بعناية الله، سيد التاريخ ونصلي من اجل انتخاب رئيس للجمهورية، واجراء الاصلاحات المنتظرة، واخراج الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي من معوقاته المعروفة من الذين تعبوا وعملوا فيه بروح السؤولية، ويشاهدون اليوم انهياره. فإذا، لا سمح الله، لم يجرِ اي شيء من الثلاثة المذكورة، تفاقم نزيف الهجرة سواء على مستوى الافراد، ام على مستوى الشركات والمؤسسات التي ما زالت تستوعب آلاف الكوادر، وتؤمن لها معيشة محترمة، واقله مقبولة تقيها شر الهجرة من لبنان”.
وختم: “فيا أيها المسيح الرب في ذكرى ميلادك مخلصا لنا وللعالم كله، نصلي اليوم أمام المغارة، راجين أن تشمل جميع الناس والشعوب بنعمة خلاصك التي تجعلنا أبناءً لله وإخوةً بعضنا لبعض، لك المجد والتسبيح ولأبيك المبارك وروحك الحي القدوس الآن وإلى الأبد. ولد المسيح! هللويا!”
بعد القداس استقبل الراعي المؤمنين المشاركين في القداس للتهنئة بالاعياد.