رأى البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أن “المقاطعة الناتجة من عدم الثقة بين اللبنانيين هي سيدة الموقف اليوم، لذلك لا يجرؤ احد على المبادرة الى فتح حوار وطني صريح وصادق يتفوّق على كل المصالح الشخصية والفئوية، وكذلك لا يرى احد جدوى من تلبية دعوة الى حوار لا يغوص جدّيًا في جوهر نقاط خلافية تراكمت حتى تحولت الى قنابل موقوتة”.
وسأل: “أما آن الاوان لنكون رجال دولة حقيقيين لا نقيم اعتبارًا الا للبنان السيد الحر المزدهر، لبنان الرسالة والنموذج للشرق كما للغرب، فنبادر فورًا الى انتخاب رئيس للجمهورية يقود حوارًا وطنيًا مخلصًا للبنان يعيد الثقة ويضعنا على السكة الصحيحة لترسيخ الاستقرار ولاعادة البناء على الصعد كافة، وابرزها السياسية والمالية والاقتصادية والقضائية والامنية؟”
وقال في مؤتمر “التجدد للوطن” بعنوان “من لبنان الساحة…الى لبنان الوطن”، من واجهة بيروت البحرية: “لعبت التأثيرات والمصالح الخارجية عام 1975 على التناقضات داخل الساحة اللبنانية فجعلت من لبنان ساحة عبثية للفوضى ولتصفية الحسابات ودفعت ببعض الفئات الى توسيع احلامها واطماعها والرهان على قوى خارجية وعلى انتصارات وهمية سرعان ما تبيّن انها لم تكن سوى خوضًا في المجهول لا بل انتحارا حوّل لبنان الى ساحة مفتوحة على كل الاحتمالات الهدامة”.
أضاف: “بعد نهاية تلك الحرب المشؤومة عادت اللحمة الى النسيج اللبناني ليعود مشروع الدولة وبناء المؤسسات الى الواجهة برغبة ظهرت صادقة من قبل معظم الفئات اللبنانية، ولكن هذا المشروع واجه العديد من الصعوبات والتحديات وكان له المتضرّرون من قيام الدولة بالمرصاد سواء من الخارج أم من الداخل”.
وتابع: “نَشأَت في الأوساطِ اللبنانيّةِ “كانتونات” مُغلقةٌ تُمارس حياتَها الخاصّةَ والعامّةَ بمنأى عن المجتمعِ اللبنانيِّ الفسيح. إنها “كانتوناتٌ اجتماعيّةٌ” تتداولُ في كيفيةِ تسييسِ ذاتِها وإعطائِها حالةً شرعيّةً. لكنَّ الفرقَ شاسعٌ بين كانتونات النوادي المغلَقةِ وبين الكانتوناتِ الدستوريّة. أمسى لبنان بلدًا طبقيًّا من دونِ صراعٍ طبقيٍّ. فئاتُه الاجتماعيّةُ كَوَّنت طَبقاتٍ ذاتيّةً تُمارسُ نمطَ حياةٍ خاصًّا من دونِ أن تتصارعَ اجتماعيًّا وأمنيًّا، ولا حتّى سياسيًّا. وحين انتفضَ الشعبُ وتَظاهرَ وقَطعَ الطرقاتِ من أجلِ تحسينِ شروطِ حياتِه اليوميّةِ، إِنما انتفَضَ ضِدَّ لا أحدَ، وضِدَّ عناوينَ مغلوطة. وحين اختارَ في الانتخاباتِ مُمثلِّيه غالِبًا ما اختارَ الأسماءَ المغلوطةَ أيضًا. إذا كانت هذه الأفكارُ تراودُ البعضَ فلأنَّ لبنان كان ـــ على شوائبِه ـــ بلدَ النهضةِ وباتَ بلدَ الانحطاط، وكان بلدَ البحبوحةِ وأصبحَ بلد البؤس، وكان بلدَ الحريّةِ وصارَ بلدَ الفوضى”.
وقال: “كثُرت في الآونِة الأخيرةِ طروحاتٌ دستوريّةٌ مختلفةٌ من أجلِ إيجادِ صيغٍ دستوريّةٍ تُعيد الأملَ إلى الحياةِ في لبنان من دون أن تقضيَ على كيانِ لبنان. تَعتقد هذه الفئاتُ أنّها صَبرت كثيرًا على الصيغةِ القائمةِ وأعْطَتها جميعَ حظوظِها، فيما فئاتٌ أخرى، من كلِّ الطوائفِ أيضًا، تَعتقدُ أنَّ المراحلَ الصعبةَ باتَت وراءَنا والصيغةَ الحاليّةَ ستَستعيدُ تألّقَها، ولا داعٍ بالتالي للبحثِ عن صيغٍ جديدة. لكن سَها عن بالِ هؤلاء أنَّ تألُّقَ الصيغةِ اللبنانيّةِ يَتعذّرُ بمنأى عن انتظامِ الاستقرارِ السياسيِّ والأمنيِّ والكيانيِّ في سائرِ دولِ الشرقِ الأوسط. تَطوّرُ المجتمعِ اللبنانيِّ جاء متنافِرًا. فئاتٌ كانت بعيدةً عن الفكرةِ اللبنانيّةِ صارت تُدافعُ عنها، وفئاتٌ أخرى كانت قريبةً منها ابْتعدَت عنها. تَجاهَلتْها وتَجهّلَت، والتحقت بأفكار أخرى لا تَـمُتُّ إلى الفكرةِ اللبنانية، حتى باتَ التوفيقُ بينهما مستحيلًا”.
أضاف: “الحلولُ التي يَقترحُها اللبنانيّون للبنانَ الجديدِ يَرتابُ أصحابُها في نجاحها لأنَّ المجتمعَ اللبنانيَّ صار عَصِيَّا على الحلول وأليفًا على المشاكل، ولأنّهم يَطرحونَها تحت وطأةِ الأحداث. اسْتأنس اللبنانيّون التنقّلَ من أزْمة إلى أخرى كأنَّ الأزَماتِ أهونُ من الحلول. الحلولُ الوطنيّةُ مُعقّدَةٌ، والحلولُ الفئويّةُ ليسَت موضوعَ إجماع. الإشكاليّةُ الكبرى في المجتمعِ اللبنانيِّ أنَّ العناصرَ التأسيسيّةَ التي تكوّنُ “أمّةً” – وهي الشعبُ والتاريخُ والجُغرافيا واللغةُ والحضارةُ و/أو الثقافةُ – هي العناصرُ الخلافيّةُ التي تُفرّقُ بين اللبنانيّين. فأطرافٌ لبنانيّةٌ، متأثِّرةٌ بالمحيط، اخْتزلَت جميعَ العناصرِ التأسيسيّة للأُمَة بالدين ثم بالمذَهب وقَضَت على مفهومِ الأمّةِ الحضاريّةِ اللبنانيّةِ وجَرَفت في طريقِها مفهومَ الدولةِ/الكيان. لا قيمةَ لأيِّ أمّةٍ أو دولةٍ ما لم تُوفّر للشعبِ السلامَ المستدامَ والحرّيةَ والكرامة. وهذه الفضائل هي ثمرة إرادةِ الحياةِ المشتركةِ قبل أن تكونَ حصيلةَ الدستورِ والقانون”.
وتابع: “تَغيّر نسيجُ المجتمعِ اللبناني حضاريًّا ومناطقيًّا. لم يَعُد لبنانُ نسيجَ ما قبلَ سنة 1975، ولا نسيجَ إفرازاتِ حربِ السنتين، ولا نسيجَ كانتونات الثمانينيات، ولا نسيجَ اختلاطِ تسعينياتِ القرن الماضي. ومن هنا تَتعقّدُ عمليةُ انتخابِ رئيسِ الجمهوريّة لأنَّ القوى السياسيّةَ تظنُّ بأنَّ الرئيسَ الآتي سيكون ناظمَ إعادةِ صياغةِ لبنانَ الجديد، ولا بدّ من وضعِ شروطٍ مُسبَقةٍ عليه. البعضُ يريد رئيسًا يأتي ليكُمِلَ، وآخرون يريدون رئيسًا ليَنقضَ. لكنّنا في الحقيقةِ نريد رئيسًا ليُغيّرَ ويخلقَ بيئةً وطنيةً جديدةً نظيفةً، وسلوكًا أخلاقيًّا، والتزامًا بالثوابتِ التاريخيّةِ، وبعلاقاتٍ إيجابيّةٍ مع العالم، ويَضعَ حدًّا للتبعيّةِ وتَشتيتِ الشرعيّة، ومقاربةً جديدةً للمشاكلِ ويُطلقَ سَراح اللبنانيّين”.
وقال: “كانت فكرة البطريرك الياس بطرس الحويّك الثابتة والعاملة إنشاء لبنان الكبير بكامل أرضه مسترجعًا المناطق التي سلختها عنه الولاية العثمانيّة، غير آبهٍ بتركيبتها السكّانيّة، إذ كان يعتبر الإنتماء إلى لبنان بالمواطنة لا بالدين. وهكذا فصل الدين عن السياسة في لبنان حتى يومنا. مع البطريرك أنطون بطرس عريضه، من إعلان دولة لبنان الكبير إلى محطّة الإستقلال، إستمرّ موقف البطريركيّة ثابتًا على خيار لبنان الوطن بمفهوم دولة المؤسّسات القادرة والعادلة. مع البطريرك بولس بطرس المعوشي إستمرّت البطريركيّة في ثباتها على خيار الوطن-الدولة. كما رفض البطريرك إتفاق القاهرة سنة 1969، وانحاز إلى مشروع الدولة. مع البطريرك أنطونيوس بطرس خريش إستمرّ صوت البطريرك يرفض كلّ الطروحات المسيحيّة والإسلاميّة والحرب في إندلاع، منحازًا لمشروع الوطن الدولة. مع البطريرك نصرالله بطرس صفير ظلّ يغلّب لبنان الوطن على لبنان الساحة. ومعنا نحن يستمرّ خيار لبنان الوطن الدولة”.
وختم: “ليس أمامنا سوى خيار واحد وهو الدولة-الوطن الذي يجب العمل من أجله والتفاني في سبيله، وفي سبيل وجهه المتألّق عبر المئويّة الأولى لتكوينه”.