الرئيس الشهيد بشير الجميل من الصعود حتى الاستشهاد في 14 أيلول 1982

كان حلم الرئيس الشهيد بشير الجميل أن يبني دولة فككتها الصراعات الدولية والإقليمية والمحلية فيما كانت منهارة كما هي اليوم. حلم بشير هو حلم كل مواطن لبناني حقيقي، وبرهن لنا أن بالامكان تحقيق هذا الحلم، من خلال تجربة ٢١ يوما، حلم دولة قوية:

– دولة تتحقق فيها العدالة بين المواطنين تحت الدستور والقانون، وليس بأعراف يفرضها المستقوي على المستضعف.

– جمهورية ديموقراطية بمؤسسات دستورية، ومسؤولون يقومون بواجبهم ولا يستغلون مواقعهم ليخضعوا الأخرين لإرادتهم.

– جمهورية كل مواطن لبناني فيها يحصل على حقوقه ويقوم بواجباته بالكامل، لا جمهورية بعضهم يدفع ما هو مترتب عليه والبعض الآخر يسرق ويتهرب ويهرب.

– جمهورية قوية ونهائية بشعبها ومؤسساتها وأرضها تمتد على مساحة ١٠٤٥٢ كلم٢.

بشير الذي ولد عام 1947 في بيروت في عائلة مؤلفة من اربع بنات وشابين هو اصغرهم والذي تلقى علومه الإبتدائية والتكميلية في مدرسة الآباء اليسوعيين برزت نزعته القيادية منذ الطفولة فكان في اللهو مع رفاقه يمارس دور القائد تماماً فيعطي الأوامر ويوزع الأدوار ويدافع عن حق الضعيف منهم حين لا يقوى على ذلك.

في العام 1962 طرد من مدرسته الأولى بسبب تعصبه لحزب الكتائب فانتقل الى المؤسسة اللبنانية الحديثة التي يتولى ادارتها الأب ميشال خليفة صديق والده. هناك وبرغم انه تابع فوضاه التي تثير الإنتباه، برز محاوراً منفتحاً لا ينفك عن طرح الأسئلة المحرجة ولا يترك سائله قبل ان يقنعه الجواب، فإن لم يقتنع بشير كان يتابع الجدال الى ان يقتنع محاوره بحججه ويميل الى طرفه.

اثناء دراسته للحقوق عمل على نشر العقيدة الكتائبية بين الطلاب وراح يحارب اليسار بالحجج والمنطق. في العام 1969 زار مصر بدعوة من ابن الرئيس عبد الناصر ولما التقى بالرئيس اعجب بشخصيته. بعد تخرجه علم مادة التربية لمدة ثلاثة اعوام في المدرسة الثانية التي كان فيها تلميذاً. بعد ذلك سافر عام 1972 الى الولايات المتحدة ليتابع تحصيله الدراسي الا انه عاد في ايلول من نفس العام بعدما ادرك ان ما يربطه بلبنان هو اكبر من اي تحصيل علمي.

مع عودة بشير كانت قوة الفلسطينيين تزداد تباعاً وكان واضحاً من سير الأمور ان العرب يريدون التخلص من هم القضية الفلسطينية برميها على لبنان. فكرة الوطن البديل والسلاح الفلسطيني المتفلت حفزت المسيحيين على الإستعداد للمواجهة فكانت الخطوات الأولى تدريب نحو 50 طالباً على الف باء المقاومة، بعد ذلك جمع بشير مجموعة طلابية اخرى من الأشرفية ورافقهم الى دده حيث بدأوا بالتدرب، وقد شكلت هذه المجموعة نواة سرية الطلاب الأولى.

مع بدء الحرب انصرف بشير الى تهيئة قواته كما ارادها نخبة سياسية وعسكرية وجعل نواتها فرقة ال ب- ج التي قاتلت في الأشرفية طوال حرب السنتين الى جانب مجموعات اخرى للكتائب والأحرار والتنظيم. ومن ثم بدأ بشير يبرز كقائد ميداني مع استرجاع الكرنتينا والمسلخ في 18 كانون الثاني 1976.

في 12آب سقط مخيم تل الزعتر الفلسطيني بعد 54 يوماً من الحصار واعلن بشير ان جميع القوى المسيحية شاركت في اسقاط هذا المعسكر. على اثر ذلك تولى بشير رئاسة مجلس الأمن الكتائبي خلفاً لوليم حاوي الذي استشهد في هذه المعركة، وبدأ قادة المجموعات الكتائبية بالإلتفاف حوله. وقد اظهرت معركة تل الزعتر الحاجة الى قيام قيادة موحدة للمجموعات المسيحية المقاتلة، وظهر اسم بشير كمرشح ابرز لتولي منصب القيادة، فوضعت النصوص والأنظمة الأولى لهذه القوات في حزيران 1976.

وفي 20 آب 1976 وافق المكتب السياسي للكتائب بموجب القرار رقم 3450 على نظام القوات اللبنانية المشتركة وكلف بشير بتمثيل الحزب داخل هذه القوات. الا ان بشير دخل في مواجهة مع الكتائب عندما وافق مجلسها السياسي على دخول قوات الردع العربية الى الأشرفية فاستقال من عضويته لكن بيار الجميل رفض الإستقالة، فلم يجد بشير بداً من التجاوب وفرض على المكتب السياسي بالمقابل تمويل تدريب وحدات عسكرية اضافية والإنتقال مع قواته الى مقرقيادة جديد لمجلس الأمن الكتائبي في الكرنتينا الذي عرف لاحقاً بإسم المجلس الحربي.

في تموز 1978، اشعل السوريون الأشرفية في المعركة التي عرفت بمعركة المئة يوم وحاولوا مراراً التقدم الى داخلها الا ان بشير قاد بنفسه انطلاقاً من بيت الكتائب معركة الدفاع عن الأشرفية. وفي 8 آب اضطرت القوات السورية للإنسحاب من بعض مواقعها في المناطق المسيحية وتجمعت في برج رزق، الا انها زادت من قصفها الهستيري للشرقية. لكن بسبب صمود الشباب بقيادة بشير آلت نتيجة حرب المئة يوم الى اخلاء الجيش السوري لقطاع برج رزق ومحيط جسر الكرنتينا في20 تشرين الأول فصار بشير بطلاً وطنياً حقيقياً تهيم به الناس.

كان يرفض ان يكون طعامه غير طعام المقاتلين فكان يأكل سندويشات المورتديلا والجبنة بشكل دائم اثناء المعارك. وكان يرفض تحميل المقاتلين مسؤولية اي فشل بل كان يتحمل ذلك لوحده، كما كان يعزو اسباب الإنتصارات الى شجاهتهم وتفانيهم.

دفع بشير ثمن الحرب مثله مثل اي مواطن عادي، ففي 23 شباط 1980 استشهدت مايا طفلته وثلاثة من مرافقيه هم الياس لحود ونعمة غانم وطوني واكيم في انفجارسيارة مفخخة كانت متوقفة قرب تصوينة مبنى وزارة الخارجية في اللحظة التي كانت سيارة بشير تمر من هناك من دون ان يكون هو في داخلها.

وبعد ان كان حمل السلاح قد ادى الى اشتباكات فردية بين القوى المسيحية حصدت بين عامي 1979 و1980 اكثر من مئتي قتيل وجريح، اتى يوم 7 تموز 1980 ليعلن بشير عصر ذلك اليوم ان المقاومة هي وحدة عسكرية وتعددية حزبية وسياسية مؤكداً ان ان المجلس الحربي سيتحول قريباً الى مجلس للقوات اللبنانية. وكان لموقف الرئيس كميل شمعون اثر كبير في تقليل سلبيات ما حصل في هذا اليوم وقد علق بشير على هذا الموقف بالقول:” اريد ان اعترف بأن موقف الرئيس شمعون مش ممكن يكون موقف مندفع اكثر من هيك”.

في 2 نيسان1981 حاصر السوريون زحلة اكبر مدينة مسيحية في الشرق وقصفوها بشدة وحاولوا اقتحامها من جهة حوش الأمراء والبولفار مرات عدة. تصدت القوات اللبنانية لهم وقصفت مقر قيادتهم في البقاع . وفيما السوريون يواصلون حصارهم وقصفهم للمدينة ابرق الشيخ بشير للمقاومين ليل 10- 11 نيسان رسالة معبرة جاء فيها: “اذا قررتم ان تبقوا فاعلموا ان الابطال يموتمون ولا يستسلمون”.

بعد ثلاثة اشهر من الحصار تقريباً اعلن الشيخ بشير في 29 حزيران عن اتفاق بشان زحلة ينص على انسحاب جميع الوحدات السورية الخاصة المحيطة بزحلة. وعلى تسليم الدرك اللبناني طريق حوش الامراء، المعلقة، منطقة الجسر تمثال العذراء. وعلى خروج وحدات القوات اللبنانية من المدينة بواسطة آليات قوى الامن الداخلي.

في اوائل آب 1981 بعد اسابيع قليلة من انتهاء معركة زحلة زار بشير واشنطن في زيارة كرست وزنه السياسي وجعلت الناطق بإسم الخارجية الأميركية يقول “ان بشير مدعو للعب دور كبير في المستقبل”.

في تشرين الثاني 1981 اعلن بشير في خطاب القاه بمناسبة ذكرى تأسيس حزب الكتائب معارضته لإمكانية اجراء اي انتخابات حرة طالما ان القوات السورية موجودة في لبنان مطالباً برئيس قوي يتمتع بثقة المقاومة اللبنانية.

في مطلع ايار 1982 اعطت الجبهة اللبنانية موافقتها المبدئية على ترشيح بشير وبعد ذلك بثلاثة اسابيع قرر المكتب السياسي لحزب الكتائب ان بشير هو مرشحه للرئاسة من دون ان يعلن ذلك.

وعندما رأى بشير ان الوقت قد حان للعودة الى الجبل، عقد في 27 حزيران 1982 في قسم الكتائب في الكحالة اجتماعاً مع وفد من مشايخ ووجهاء الطائفة الدرزية في المتن الأعلى اثمر اتفاقاً فحواه انه اذا كانت القوات ستعود الى المتن الأعلى فسيكون دخولها دون قتال، ودون جمع للسلاح من الدروز ودون ان تجرى اعتقالات في صفوفهم.

وفي 24 تموز اعلن بشير الجميل ترشحه لرئاسة الجمهورية مؤكداً تمسكه بوحدة لبنان مطالباً بخروج كل الغرباء والقوى المسلحة من لبنان وبانصهار التنظيمات المسلحة في القوى الشرعية. وقد اعلن لجريدة لوموند انه سيعمل سريعاً وبحزم من اجل التوصل الى رحيل القوات الإسرائيلية والسورية من لبنان في حال انتخابه رئيساً، داعياً القادة المسيحيين والمسلمين الى الوحدة المقدسة لأجل انقاذ لبنان.

هذه المواقف جعلت العرب ينظرون الى بشير على انه مشروع رئيس مقبول لا بل مرغوب به من وجهة نظرهم، فتلقى دعوة من وزير الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل لزيارة السعودية نقلها اليه السفير السعودي في بيروت الفريق علي الشاعر. وقد نقلت طائرة هيليكوبتر اميركية الشيخ بشير الى الطائف في زيارة مثمرة دامت يومين (30 حزيران – 2 تموز). هذه الزيارة كانت مناسبة لبشير قدم خلالها نفسه الى السعودية كرجل حوار ومن خلالها الى السنة اللبنانيين والزعماء المسلمين التقليدييين الذين اخذوا يتكتلون ويستعيدون شارعهم المتململ والرافض للحركة الوطنية، وبدأوا يبعثون بإشارات الرد الإيجابي على سياسات بشير الإنفتاحية. استمر بشير الجميل بمواقفه الحازمة وادهش السوريون والإسرائيليون معاً بتصريحاته فأعلن في 22 آب في حديث للواشنطن بوست: ” ان الإحتلال الثلاثي للبنان يجب ان يتوقف وعلى القوات الإسرائيلية والسورية ان تنسحب. لن نسمح بعد اليوم لجيراننا او لقوى اخرى ان يجرونا الى منازعاتهم. يجب تأسيس جيش لبناني لديه من القوة ما يمكنه من الحفاظ على وحدة اراضي لبنان، وعلى مئات الآِلاف من الفلسطينيين الذين سيظلون في لبنان ان يخضعوا لسلطة الحكومة اللبنانية “.

وفيما كانت الدفعة الثالثة من المقاتلين الفلسطينيين تغادر لبنان، انتخب مجلس النواب في 23 آب بشير الجميل رئيساً للجمهورية بأكثرية 57 صوتاً نالها في الدورة الثانية للإقتراع من الجلسة التي عقدت في المدرسة الحربية في الفياضية وحضرها 62 نائباً.

في 1 ايلول خرجت الدفعة الخامسة عشر الأخيرة من المقاتلين الفلسطينيين من لبنان(682 مقاتلاً) الى طرطوس بحراً. كما كان 3600 جندي سوري قد غادر لبنان فبدأت شخصيات سياسية ودينية على رأس وفود شعبية سنية ودرزية تزور الرئيس المنتخب مهنئة ومعربة عن كامل استعدادها للتعاون معه. وفي 6 ايلول قال الرئيس بشير الجميل امام وفد درزي جاء لتهنئته في بكفيا:” بدأ الجبل يتوحد تمهيداً لتوحيد الوطن”.

السبب في بدء الإلتفاف الإسلامي حول بشير يعود الى كونه قد عبر عن ارادته بأن يكون رئيساً لكل اللبنانيين دون استثناء. وقد اكتسب صدقية كبيرة عندما اعلن رفضه لإبرام معاهدة سلام منفصلة مع اسرائيل مما اكسبه شعبية كبيرة بين المسلمين فاجتمع في 11 ايلول بالرئيس صائب سلام وبدا ان الرئيس الحلم ماض ولأول مرة في صنع السلام اللبناني. ولأن السلام اللبناني لم يعجب الغرباء فقد استشهد بشير بتفجير بيت الكتائب في الأشرفية في 14 ايلول 1982.

كان بشير يتحدث بلغة بسيطة ومباشرة عن حلمه، اي عن شعب قوي وموحد، عن ادارة يطرد منها الفساد، عن مجتمع يتم الترقي فيه على اساس الكفاءات لا على اساس الثروة او الولاء العائلي والطائفي، عن بلد يفرض احترامه على الأجنبي بفضل جيشه القوي ودبلوماسيته الفعالة. ظهر بشير الجميل وكأنه المنقذ الذي انتظره طويلاً شعباً بكامله ولكن اغتياله ابكى كل الناس.