الكاتب: سابين عويس
ليست المرة الاولى التي يتناول فيها البنك الدولي موضوع الفقر في لبنان من زاوية التقييم السنوي للمؤسسة الدولية لمؤشر الفقر المتعدد الأبعاد، الذي يُظهر كل عام إرتفاعاً متدرجاً في النسب، وتحديداً منذ اندلاع الحرب في سوريا وبدء تدفق النازحين في الأعوام الاولى لها إلى لبنان بوتيرة متسارعة، بدأت بسبب الظروف الامنية الخطيرة وتحولت في ما بعد إلى نزوح اقتصادي نظراً إلى فرص العمل المتوافرة في لبنان.
بدت الأرقام اكثر حدة عندما تمت معادلتها على مدى عقد، اذ بيّن التقرير الأخير الصادر قبل ايام قليلة ان معدل الفقر ارتفع أكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقد الماضي إلى 44% من مجموع السكان مقارنة بـ 12 في المئة عام 2012. واستناداً إلى دراسة استقصائية للأسر (4200 أسرة) أُجريت مؤخراً وشملت محافظات عكار وبيروت والبقاع وشمال لبنان ومعظم جبل لبنان، خلص التقرير إلى أن واحداً من كل ثلاثة لبنانيين في هذه المناطق طاوله الفقر عام 2022، مما يسلط الضوء على ضرورة تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي وخلق فرص العمل للمساعدة في التخفيف من حدة الفقر ومعالجة أوجه عدم المساواة المتنامية.
يحاول التقرير، الصادر تحت عنوان ” تقييم وضع الفقر والإنصاف في 2024، التغلب على ازمة طال أمدها”، توثيق الحالة الراهنة للفقر وعدم المساواة في البلاد، وأثر الأزمة الاقتصادية والمالية على الأسر، وديناميكيات سوق العمل، معتمداً على دراسة استقصائية للأسر أُجريت بالتعاون مع برنامج الأغذية العالمي ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بين كانون الأول 2022 وأيار 2023، وشملت اللبنانيين والسوريين وغيرهم من جنسيات اخرى (باستثناء الفلسطينيين في المخيمات والتجمعات) في خمس محافظات في لبنان. وشملت البيانات التي تم جمعها الخصائص الديموغرافية، والتعليم، والتوظيف، والصحة، والنفقات، والأصول والممتلكات، والدخل، واستراتيجيات التكيف، بما في ذلك خفض معدل استهلاك الغذاء والنفقات غير الغذائية، فضلاً عن خفض النفقات الصحية، مع ما قد يترتب عليه من عواقب وخيمة على المدى الطويل. وحتى يتسنى تناول هذه التغيرات في سلوكيات الأسر على نحو أفضل، اعتمد التقرير خط فقر غير رسمي جديد تم وضعه لعام 2022، إذ لم يعد خط الفقر الوطني المعتمد منذ عام 2012 يعكس أنماط الاستهلاك الحالية أو الظروف التي تواجه الأسر في لبنان اليوم. لا يغفل معدّو التقرير الإشارة إلى ان عدم توافر بيانات عن محافظات بعلبك – الهرمل والنبطية يؤدي إلى تقييد التقييم التجريبي للفقر في هذه المناطق واقتصارها على محافظات عكار وبيروت والبقاع وجبل لبنان والشمال، ما يؤثر على التقييم على صعيد البلد بأكمله. وفي حين كان الهدف من الاستطلاع ان يكون تمثيلياً على المستوى الوطني، لم يتمكن الفريق من ذلك فاقتصرت العيّنة على 4200 اسرة في المحافظات الخمس، ما يجعل نتائجها غير دقيقة.
وكشف التقرير زيادة كبيرة في معدل الفقر النقدي من 12% في العام 2012 إلى 44% في 2022 في المناطق التي شملتها الدراسة، مسلطاً الضوء على التفاوت في توزيع الفقر في لبنان، اذ وصل مثلاً المعدل إلى 70% في عكار، حيث يعمل معظم السكان في قطاعيي الزراعة والبناء.
ومع النمو السريع للاقتصاد النقدي المدولر، تجد الأسر اللبنانية التي تحقق دخلاً بالدولار نفسها قادرة على المحافظة على قدرتها الشرائية، فيما الأسر التي لا تستطيع الحصول على الدولار تجد نفسها معرضة بشكل متزايد لمخاطر تصاعد وتيرة التضخم. وقد أصبحت التحويلات الواردة من الخارج دعامة اقتصادية مهمة، حيث ارتفعت من معدل 13% من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2012 و2019 إلى نحو 30% في عام2022 (ويعود ذلك جزئياً إلى عدم زيادة الناتج المحلي الإجمالي بصورة حقيقية). ولهذه التدفقات المالية دور متزايد الأهمية في منع سقوط شريحة من السكان في الفقر. وكان لافتاً ان شريحة أوسع من الأسر تشعر بأنها باتت اكثر فقراً مقارنة بما يتم قياسه موضوعياً باستخدام البيانات. لذلك عندما طُلب من الأسر تصنيف وضعها الاقتصادي اعتبرت نفسها إما فقيرة وإما فقيرة جدا، بما في ذلك ما يقارب 30 في المئة من الأسر التي تشغل اعلى 20 في المئة من سلّم التوزيع.
ويكشف المدير الإقليمي لدائرة الشرق الأوسط في البنك الدولي جان كريستوف كاريه انه “مع استمرار الأزمة، تزداد الحاجة إلى تتبع الطبيعة المتغيرة لرفاهة الأسر على نحو أفضل من أجل وضع السياسات الملائمة واعتمادها، مسلطاً الضوء على ضرورة تحسين استهداف الفقراء وتوسيع نطاق تغطية وعمق برامج المساعدة الاجتماعية لضمان حصول الأسر المحتاجة على الموارد الأساسية، وبخاصة الغذاء، والرعاية الصحية، والتعليم”.
يكتسب التقرير أهمية لجهة تسليطه الضوء على وضع الأسر السورية التي تضررت بشدة من جراء الأزمة، وذلك على نحو يبين ان النازحين لا يتمتعون بمستوى جيد من المعيشة رغم كل المساعدات الدولية التي يتلقونها، اذ يبين التقرير ان نحو 9 من كل 10 سوريين يعيشون تحت خط الفقر في عام 2022، و45% من هذه الأسر تستهلك معدلات من المواد الغذائية أقل من المعدلات المقبولة. ويعمل معظم السوريين في سن العمل في وظائف منخفضة الأجر وأقل استقراراً في القطاع غير الرسمي، مما يسهم في إفقارهم وانعدام الأمن الغذائي.
وفي حين يوصي التقرير بسلسلة من الإجراءات للمساعدة في بناء قدرة الأسر على الصمود وتحمّل الأزمة التي طال أمدها، لا يفرق بين الأسر اللبنانية والسورية او يقدم اي توصية من شأنها ان تقارب ملف النازحين من وجهة النظر اللبنانية الداعية إلى توفير ظروف عودتهم الطوعية والآمنة إلى بلادهم، على نحو يخفف الضغط على المجتمع اللبناني المضيف.
لا توافق جهات لبنانية رسمية على الأرقام التي أوردها التقرير، مشيرة إلى أن ثمة مبالغة فيها لجهة اعتبار ان واحدا من كل ثلاثة لبنانيين يعيش في الفقر، وتعزو ذلك إلى تفاوت المستوى المعيشي بين منطقة وأخرى، بحيث يؤدي المعدل العام للعينة إلى نتيجة مماثلة.
والواقع، وفي مقارنة لتقارير سابقة للبنك الدولي، يكشف تقرير مؤشر الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان لعام 2019، اي تاريخ بدء الأزمة المالية والمصرفية وانهيار العملة الوطنية، ان 53،1 في المئة من جميع السكان كانوا يعانون الفقر المتعدد الأبعاد (التعليم، الصحة، الامن المالي، البنية التحتية ومستويات المعيشة) لأنهم كانوا محرومين في اكثر من 25 في المئة من هذه المؤشرات، فيما قدر التقرير عينه نسبة الذين يعيشون في الفقر المدقع بـ 16،2 في المئة.
قد يكون التقرير في رأي هذه الجهات محاولة لتبيان المخاطر المترتبة على تنامي الفقر في لبنان، خصوصاً ان لا إحصاءات رسمية دقيقة او جديدة حول هذا الموضوع، اذ ان آخر تقرير اعدته ادارة الإحصاء المركزي حول مستوى المعيشة والبطالة يعود إلى العام 2021، وتم تعديله وفقاً لقاعدة البيانات التي شملت 10 آلاف عيّنة عام 2022، علماً ان ذلك التقرير شمل نماذج لـ 50 الف عينة، ما يطرح التساؤل حول مدى صحة التقييم الدولي القائم على عينة من اربعة آلاف أسرة. وعند هذه النقطة، تطرح هذه الجهات علامة استفهام حوّل نقطة انطلاق الإحصاء وما إذا كانت العينات المعتمدة تمثل كل الشرائح المجتمعية. وعليه، تدعو إلى تفعيل عمل ادارة الإحصاء المركزي التي تشكل المصدر الرسمي للإحصاء في لبنان عبر توفير كل المقومات المالية التي تحتاجها للقيام بعملها.