سركيس كرم
يبقى السؤال الجوهري مطروحًا: هل نريد، نحن اللبنانيين، أن نبني دولة حقيقية؟ دولة ناجزةن قوية بجيشها ومؤسساتها، تحترم جميع مواطنيها، تعاملهم على قدم المساواة، تستوفي منهم ما عليهم من واجبات، وتمنحهم ما لهم من حقوق؟
للأسف، تشير الدلائل حتى الساعة إلى أن الأمور تسير نحو الميوعة والمماطلة والتزاكي بهدف إضاعة الوقت وإهدار الفرص. وهنا يكمن الخطر الأكبر. فالتراخي والتردد في اتخاذ القرارات الحاسمة، لا يؤدي فقط إلى تعطيل المسار، بل يُهدر فرصة نادرة قد لا تتكرر، وهي إعادة بناء لبنان الواحد، الموحد الذي تحكمه دولة مؤسساتية ناجزة.
إن فشل هذا المسعى لا يعني العودة إلى نقطة الصفر فقط، بل قد يقود إلى تفتيت الوطن وتحويله إلى دويلات طائفية هشّة، غير قادرة على الاستمرار في وجه تحديات العصر التي لا يقدر على مواجهتها سوى الأقوياء بوحدتهم وبدولتهم وبمصلحة وطنهم.
لبنان يقف اليوم على حافة منعطف تاريخي خطير. لم تعد المسائل التي يواجهها مجرد أزمات عابرة، بل تحوّلت إلى تهديدات وجودية تمسّ مستقبل الدولة وجوهر العيش الواحد. إنها مرحلة مصيرية، فإما أن نختار الدولة، أو نُترك للضياع والتلاشي في دويلات هشة مشرذمة.
الدولة ليست مجرد شعار. الدولة هي القانون والشرعية، وهي المؤسسات، وهي العدالة التي تحمي الضعيف وتُحاسب الفاسد. الدولة هي الجيش والقوى الأمنية، والقضاء المستقل، واقتصاد يحفظ كرامة المواطن. وحين تتفكك هذه الأسس، لا يبقى لنا سوى الفوضى، والانقسام، والخراب، مثل الذي عانينا منه على مدى عقود من الزمن.
لقد آن الأوان لنقولها بوضوح ومن دون مسايرة وعواطف وبكل تجرد: لا مكان بعد اليوم للمصالح الضيقة والفئوية، ولا وقت للخطابات الإنفعالية وغير المنطقية، ولا مفرّ من نختار بين أن نقف معًا، شعبًا وقيادة، من أجل بناء الدولة القوية، أو نُسلم وطننا لرياح التفكك والانهيار.
المعركة الحقيقية اليوم ليست بين طائفة وأخرى، ولا بين حزب وآخر، بل هي بين من يريد دولة تحمينا جميعًا ومن يجرّنا إلى مشاريع فئوية وسياسات لا يستفيد منها وطننا بشيء.
ولكي تستقيم الأمور، لا بد من وقفة ضمير. لا بد من قرارات وطنية شاملة تعيد الاعتبار للمواطنة، وتضع حداً للفلتان وللفساد، وتطبق المحاسبة.
في خضم التراشق العقيم والمزايدات ورفع السقوف السياسية، ووسط تباين الرؤى حول ثوابت السيادة الوطنية، يصعب أن نصدق أن من قدّم آلاف الشهداء ليبقى لبنان، يمكن أن يفرّط به. ولا يمكننا أن نقتنع أن من تصدى وواجه وقدم التضحيات، لا يريد ان يضع مصلحة لبنان فوق كل اعتبار.
إن الوفاء لتضحيات الشهداء، منذ عام 1975 حتى اليوم، يفرض على الجميع الجلوس إلى طاولة حوار منطقي وواقعي بعيداً عن التخوين والحقد، من أجل إيجاد أرضية مشتركة تُفضي إلى مصالحة حقيقية تحفظ الوطن، وتُعيد بناء الدولة بسواعد جميع أبنائها.
ومن واجبنا كذلك أن نقرأ الواقع بهدوء ووعي لكي نصل إلى قناعة راسخة بأننا كلبنانيين، على اختلاف انتماءاتنا، نتشارك مصيرًا واحدًا، ويجب أن نكون موحّدين في ظل دولة قوية تكون قادرة على حماية لبنان.
من هنا، ندعو إلى وقفة وطنية مسؤولة من جميع الفرقاء، وإلى الالتفاف حول مشروع الدولة خارج اطار الكيدية، والإلتزام بدعم مسيرة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، بما يضمن مصلحة لبنان.
من هنا، نأمل ان تساهم الزيارة التي قام بها وفد برلماني برئاسة النائب محمد رعد لرئيس الجمهورية، في ترسيخ الوفاق وتذليل كافة العقبات. ونرجو ان يترجم ما صرّح به النائب رعد بعد اللقاء ان “مساحة التفاهم بيننا وبين الرئيس عون واسعة ويعّول عليها” بتثبيت مفهوم الدولة القادرة التي تحمي وحدها سيادة لبنان بقواها الشرعية، وتحصّل حقوقه عبر كافة الوسائل المتاحة ومنها الوسائل الديبلوماسية والدعم الدولي والعربي، لأنه لم يعد من الجائز أن يبقى لبنان مشرّعًا لكل الإحتمالات الخطيرة والسلبية، ومنها احتمال تجدد العدوان عليه، والإستمرار في العبث بمصير استقراره.
لقد آن الأوان لأن نقف كلنا وراء الدولة لتصبح وحدها وبفضل تضامننا كلنا من دون استثناء صاحبة القرار، فلا تدار من الخارج، ولا تُبتز من الداخل.
لقد علمتنا التجارب ان ما من فئة او احزاب او طائفة، مهما بلغت من قوة وجبروت، تستطيع ان تختزل مفهوم الدولة او ان تحل مكانها، ولذلك ليس هنالك من مفر من القبول بمبدأ الدولة الجامعة، والعيش في كنف مؤسساتها، والالتزام بدعمها والاحتماء بمظلتها الشرعية.
لم يعد لبنان يحتمل المزيد من اضاعة الفرص. نحن أمام خيار مصيري… إما الدولة، أو الضياع والتشرذم.
السجالات لم تعد تفيد، إن نحن خسرنا الوطن، وقوّضنا دولته وقضينا على وحدته؟ فأي جدوى لأي موقف إن لم يبقَ لنا وطن؟