د. بول طبر
إلى جانب المعلومات الغنية والسجالية بالتأكيد، التي يحتويها كتاب “زمن اليسار الجديد” للكاتب والمؤرخ والمناضل السياسي، فواز طربلسي، لفتني تناوله للمسألة الطائفية وعلاقتها بالطبقات في المجتمع اللبناني. صحيح أن نقاشه لهذا الموضوع جاء في سياق كتابته لسيرته الذاتية، الجزء الثاني. إلاّ أن الأفكار والتحليل المقتضب الذي نجده في هذا الكتاب لظاهرة الطائفية يشكل مادة تستحق النقاش، أو لنقل الانطلاق منها لفتح نقاش مطلوب لهذا الموضوع المهم لفهم وتطوير المجتمع اللبناني، لا سيما وأن الكاتب أشار إلى أنه بصدد الإعداد لكتاب عن الطائفية.
يبدأ الكاتب النقاش بما يعتبره سؤالاً نادراً في هذا المجال، وهو لماذا ينكسر الإجتماع اللبناني عمودياً عند الفالق الطائفي “بعدما كان موحداً إلى حد كبير أفقياً على المشترك الاقتصادي-الاجتماعي خلال فترة 1964-1975، بل حتى قبلها؟” (ص. 200). ويضيف في مكان آخر: “ليس يطغى الصراع الطائفي على الإجتماعي بالضرورة ودائماً. ويمكن الصراعين أن يتعاقبا الواحد منهما بعد الآخر. دار صراع اجتماعي خلال عقد من الزمن بين 1964 و1974 حول الخيارات الاقتصادية والاجتماعية، تلته حرب أهلية ذات طابع طائفي خلال فترة 1975-1990. ويمكن أن تكون العلاقة بين الصراعين علاقة تواشج، بحيث تتوسل طبقات وشرائح اجتماعية النزاعات الطائفية لتأمين حصة لها في السلطة وفي الثروة. كذلك يمكن أن يؤدي تعديل في ميزان القوى في النزاع الطائفي إلى تعديل في ميزان القوى الطبقي (التشديد جاء في النص الأصلي).” وتوضيحاً لفكرة التواشج، يستنتج طرابلسي ما يلي: ” هكذا نتج من “أحداث” عام 1958 ارتقاءٌ اجتماعي وسياسي لرجال الأعمال السُّنة والطبقة الوسطى السّنية، كما نتج من حرب الأعوام 1975-1990 الأمر ذاته بالنسبة إلى رجال الأعمال والطبقة الوسطى الشيعية.” (ص.202)
وأخيراً، في معرض جوابه عن سر إنكسار “الإجتماع اللبناني عمودياً عند الفالق الطائفي”، يصرح الكاتب بأنه “يمكن أن يتحول النزاع من اجتماعي إلى نزاع طائفي، عندما لا تلقى النضالات الاجتماعية أي استجابة ولا تحقق أي إنجاز ولا تُواجه إلّا بالصد والقمع من قبل السلطة والطبقة الحاكمة، فيسهل أن ينفجر الإحتقان الاجتماعي في المجري الطائفي.” ويضيف موضحاً “بعبارة أخرى، الحلقة الأقوى في النظام السياسي، التي هي الحلقة الطائفية، هي الحلقة الأضعف في البنية المجتمعية. أسهل أن ينكسر (هكذا) الإجتماع اللبناني عند الفالق الطائفي منه عند الانقسام الطبقي، خصوصاً في حالات الأزمة والنزاعات العنيفة وعلى الأخص في المواجهات المسلحة.” (ص. 203)
بداية، لا بد من القول أن يصدر هذا الكلام عن كاتب ماركسي يعني أنه على الصعيد النظري يتعارض مع القراءة الإقتصادوية (أو الطبقوية) للمجتمع اللبناني وما يجري فيه من أحداث وتطورات (يصرح فواز في سيرته بأنه كان مطلعاً على كتابات ألتوسير وبولينتسيس، وهو المترجم الأول لكتابات غرامشي إلى العربية. وجميع هؤلاء مشهورون ليس فقط برفضهم للمنهج الإختزالي في النظرية الماركسية، وإنما أيضاً كانوا من القائلين بـ”الإستقلال النسبي” للبنى الفوقية وبالطابع “المادي” [ليس بالمعنى الإقتصادي] لهذه البنى).
وتماشياً مع رفض النزعة الإقتصادوية في قراءة وتحليل المجتمع اللبناني، نجد أن الكاتب يتكلم عن علاقة “تواشج” بين الصراع الطائفي والصراع الطبقي، كما أشرنا أعلاه، بمعنى أنها علاقة تقاطع، أي علاقة مساندة واكتساب متبادَل بين الطرفين. لكن القول بأن “طبقات وشرائح اجتماعية” تتوسل “النزاعات الطائفية” للحصول على حصة “في السلطة والثروة “، وإن أي تعديل في ميزان القوى بين الطوائف يؤدي “إلى تعديل في ميزان القوى الطبقي”، بحاجة لمزيد من التوضيح لجهة تداعياته بالنسبة للمقولة الماركسية بتحتيم البنية الإقتصادية للبنى الفوقية (سياسية، إيديولوجية وثقافية) “في التحليل النهائي”، ولجهة توضيح النتائج النظرية للإقرار بالتأثير المتبادل بين البنى الإقتصادية والبنى السياسية والإديولوجية والثقافية للمجتمع.
لا شك أن الإقرار بوجود علاقة تقاطع بين الصراعين يشكل الخطوة الأولى على طريق البحث المطلوب، ولكن ينبغي استكمالها بواسطة النظر ومزيد من التدقيق في موضوع الصراعين، الطائفي والطبقي: لماذا يوجد صراع طائفي أصلاً في لبنان وما هي شروط بروزه في الأساس، وما الذي يجعل الصراع الطبقي يتحول إلى صراع طائفي، والأهم ما الذي يدفع بالصراع الطبقي والتعديل في ميزان القوى الطبقي الناتج عنه أن يبقى أسيراً للأطر الطائفية والصراع بين الطوائف؟
هذه الأسئلة تقتضي دراسة الطائفية كحقل من العلاقات والمصالح التي تتمحور حول ما تفرزه هذه الظاهرة من نفوذ ومكانة اجتماعية (أي الرأسمال الطائفي بلغة عالم الإجتماع الفرنسي، بيار بورديو) قد تطال ليس فقط المجال الإجتماعي، وإنما أيضاً المجال الثقافي والسياسي ومن ضمنه الدولة وأجهزتها المتعددة. وكما يوجد “رأسمال اقتصادي” يتم النزاع على امتلاكه وحول شرعية محدداته، كذلك يمكن الإشارة إلى وجود أشكال متنوعة من الرأسمال الإجتماعي، ومنه الرأسمال السياسي، والرأسمال الثقافي والرأسمال الرمزي، كالسرديات والافكار والقيم والتأويلات التي نستخدمها لتفسير ما يجري وإضفاء المعنى عليه. إن الإمتلاك المتفاوت لهذه الرساميل يستحضر معه المكانة والنفوذ بحسب حجم وقوة ما يمتلكه الفرد أو المجموعة لواحد من هذه الرساميل أو لأكثر.
في هذا السياق، يشير بورديو إلى العلاقة بين ممثلي هذه الرساميل بأنها علاقة تنافس على السيطرة، وتشتمل أحياناً على التبادل فيما بينها، أي تحويل رأسمال معين إلى رأسمال آخر (مثلاً، شراء العلم للأولاد (رأسمال ثقافي) في المدارس والمعاهد الخاصة، أو إستخدام الثروة لاكتساب النفوذ السياسي عبر الوصول إلى المقعد النيابي والوزاري). ويتم هذا التبادل بالإستناد إلى “سعر الصرف” الذي تقوم الدولة أو السلطة السياسية في تحديده. و”سعر الصرف” هذا هو موضوع نزاع دائم بين مالكي هذه الرساميل، ولا يمكن تثبيته سلفاً وبصورة دائمة.
هل يعتمد هذا المنهج في التحليل على نزعة اختزالية تفيد بأن القوة والنفوذ هما المحرك الأساسي للمجتمعات والجماعات والأفراد؟ لا أعتقد ذلك لأن مصادر القوة التي نشير إليها متنوعة حسب تنوع الحقول والرساميل والعلاقات الملازمة لها، والتي تنحرط فيها الجماعات والأفراد، أكان ذلك في المجال الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي.
لنتوقف عند هذا الحد من النقاش النظري لنعود مجدداً إلى موضوع الطائفية وعلاقتها بالنظام الطبقي. فبعد الإشارة إلى أن الطائفية هي حقل (نظام) من العلاقات التي تنتظم وتؤطر جوانب عديدة من وجودنا الإجتماعي (من العائلة إلى مؤسسات الدولة)، وبذلك تتحول إلى “رأسمال إجتماعي” له امتداده الواضح والمتجذر في حياتنا الإجتماعية (المؤسسات الدينية) والسياسية (النظام الطائفي والأحزاب الطائفية)، نعود لنوضح أكثر العلاقة بين هذه الظاهرة وبين العلاقات والمصالح الإقتصادية.
للوهلة الأولى، يمكن القول أنه يوجد “تعايش” بين الطائفية والنظام الإقتصادي-الطبقي في لبنان. هما حقلان متمايزان وفي الوقت نفسه ينوجدان جنباً إلى جنب. إلا أن التدقيق في هذه العلاقة يظهر لنا ما هو أكثر تعقيدأ من مجرد “التعايش”. الطائفية تقسِّم الأفراد والجماعات عمودياً، بغض النظر عن انقساماتهم الأفقية -الطبقية. ويجمع الإعتصاب الطائفي الأغنياء ومتوسطي الحال والعمال وغيرهم من طائفة واحدة، في وجه الفئات الطبقية نفسها من الطوائف الأخرى. وإذا نظرنا إلى هذا الإنقسام من وجهة نظر المستغِلين بالمعنى الإقتصادي-الطبقي، فإنه يؤدي خدمة كبيرة لهم لمنعه توحيد المستَغَلين من مختلف الطوائف، أي تشكلهم في طبقة، لتخفيض درجة الإستغلال أو إلغائه بالكامل. وكذلك يؤدي الإنقسام الطائفي إلى لجم طبقة الأغنياء من أن تتوحد وتساهم في “تثوير” جوانب عديدة من المجتمع اللبناني (مثلاً، بناء مجتمع ودولة متماسكيْن بحكم انتاج إيديولوجيا وطنية جامعة، ولو بشروط تحافظ على النظام الرأسمالي والنزاعات الطبقية-الأفقية التي يستولدها)، كما حدث في بلدان رأسمالية عديدة كانت قد نجحت في تجاوز الإنقسامات العامودية (الأهلية) وبناء الدولة-الأمة. بدلاً من ذلك، نجد أنه تاريخياً قام الجناح المسيحي المسيطر من البرجوازية في لبنان بالترويج لإيديولوجيا “وطنية لبنانية”، تمثلتْ أساساً في كتابات ميشال شيحا والندوة اللبنانية، لم تكن جامعة بالمعنى المتجانس سياسياً وحقوقياً. فقد بقي التمييز الطائفي عنصراً أساسياً في تحديد هذه الإيديولوجيا.
نستنتج من هذا الكلام أن علاقة الطائفية بالمجال والنشاط الإقتصادي هي علاقة لاجمة لتشكل الطبقات بالمعنى السياسي والإقتصادي للكلمة، ولقد رافقت هذه الحالة الكيان اللبناني منذ نشوئه عام 1920. وكما أشار طرابلسي في كتابه، تمد الفئات الإجتماعية ضمن كل طائفة، من مواقعها الإقتصادية المختلفة (برجوازية، طبقة وسطى، إلخ.) طائفتها بمزيد من الموارد والقوة في معركتها مع خصومها من الطوائف المواجهة. وغالباً تكون النتيجة مزدوجة. من جهة، أي تحسين في الموقع السياسي والقانوني (والإجتماعي) للطائفة يؤدي بدوره إلى زيادة نفوذها في الدولة والمجتمع، ومن جهة أخرى، يؤدي هذا التحسّن إلى زيادة قدرة زعماء الطائفة على دعم المصالح الإقتصادية لمختلف الفئات الطبقية ضمن الطائفة المعنية دون المساس بالتراتب الطبقي فيما بينهم. ويؤدي هذا الأمر أيضاً إلى تحسين فرص الإستثمار والتربح لدى الفئات الغنية ضمن الطائفة، وزيادة فرص العمل والترقي (على محدوديتها) لدى الفئات الإجتماعية الأدنى، والحصول على المزيد من الخدمات العامة وتوسيع دائرتها ضمن أوساط الطائفة عينها.
إذاً نحن أمام واقع إجتماعي-سياسي يأسر جميع الفئات الطبقية ضمن الطائفة الواحدة، بحجة تحسين أوضاعهم الإقتصادية دون المساس بالتراتب الطبقي فيما بينهم، وما يرافقه من عملية نهب واستغلال (بالطبع لا يعني ذلك نفي تمدد العلاقات الإقتصادية إلى خارج حدود الطائفة). من هذه الزاوية، أي قراءة متأنية لتاريخ لبنان منذ تأسيسه عام 1920، تشير بوضوح أن الطائفية بما هي نظام (وممارسة) سياسي واجتماعي، قد فازت في إدارة شؤون المجتمع اللبناني وجعلت من مختلف الفئات الإقتصادية -الطبقية ترتضي بها إطاراً ليس فقط لإدارة مصالحها الإقتصادية، وإنما أيضاً لتنطيم شؤونها السياسية والإجتماعية.
لا شك أن فوز الطائفية في هذا الدور المحوري، له أسبابه التاريخية والسياسية وغيرها، لكن المهم في هذا السياق هو التأكيد على حقيقتين أساسيتين تتعلقان بتحليلنا لتلك الظاهرة. أولاً، نكرر القول بأن الطائفية هي كناية عن حقل من العلاقات (يعرف بالنظام الطائفي) التي تقوم على النزاعات بين الأفرقاء الممثلين لطوائفهم، والنزاعات التي تصل أحياناً لدرجة اندلاع الحرب الأهلية فيما بين الطوائف، هي نزاعات للإستحواذ على المزيد من السلطة والنفوذ على حساب الطرف المقابل. وثانياً، تمكنت فئات اجتماعية لها مصالح مشتركة وعابرة للحدود الطائفية من أن تتشكّل (مثلاً، نقابات، وحركات اجتماعية نسوية، طلابية، وسياسية، كان آخرها الحركات التي ظهرت خلال انتفاضة 17 تشرين) وأن تجد لها أحياناً الأحزاب التي تجسد هذه المصالح وتدافع عنها وتطالب بإلغاء النظام الطائفي، إلا أن هذه الأحزاب التي تصارعت (ولا تزال) مع الأحزاب والقوى الطائفية، وطالبت ببناء نظام سياسي يستند إلى نفي المعايير الطائفية في تنظيم الدولة، ودافعت عن حقوق المواطن العابرة للطوائف، لم تفلح لغاية الآن في تحقيق أهدافها والشروع في تفكيك النظام الطائفي.
إذاً نحن أمام حقل سياسي (وحقل اجتماعي وثقافي) المسيطر فيه للآن هو النظام الطائفي والقوى الممثلة له، وعلى هذا الأساس، يتم لجم أي محاولة لتبديل قواعد الصراع في هذا الحقل منْ قواعد ومعايير طائفية (أهلية) إلى معايير تسمح بتشكل نظام وقوى سياسية تتنازع على أساس مصالح أفقية وطبقية عابرة للطوائف.
أمام هذا الواقع، يجوز طرح السؤال عن العوامل التي تجعل من الطائفية ظاهرة لديها القدرة لتكون الممر الإجباري لسلوك الفئات الطبقية في السياسة والإقتصاد والثقافة، و”لتعديل ميزان القوى الطبقي”، حسب كلام طرابلسي. أن نقول بأن الطائفية هي ظاهرة مادية تتمظهر على مستوى المؤسسات والوعي والسلوك، فإن هذا الكلام، على أهميته، يبقى بحاجة إلى المزيد من التوضيح، لا سيما عندما يعود أصحاب هذا الرأي ليرددوا مع إنجلز أن كلمة الفصل “في نهاية التحليل” هي للبنية التحتية، أي للبنية الإقتصادية-الطبقية.
إذا كان القصد من “كلمة الفصل” تعود إلى البنية الإقتصادية-الطبقية، التدليل على تأثير الإقتصاد على “البنى الفوقية” (سياسة، قانون، ثقافة،إلخ)، ضمن أطر وقوالب البنى الفوقية السائدة، فإن ذلك لا يعني تبني الإختزال الإقتصادي-الطبقي في تحليل المجتمع وتطوره، كما أنه لا يقوم على أي منهج إختزالي، أكان لجهة “البنية الفوقية” أو “البنى التحتية”. إن ما يضفي “التماسك الإجتماعي” في التحليل الرافض للإختزال بكل أشكاله، هو السلطة السياسية والدولة بمختلف مؤسساتها التي تعكس بدورها ميزان القوى بين مختلف مكونات المجتمع الإقتصادية والإجتماعية والثقافية.
نحن هنا أمام واقع إجتماعي مركب ينتج عنه ما نطلق عليه تعبير “مجتمع”، تتوزع فيه مجموعة “رساميل” يمكن تصنيفها عموماً بالرأسمال الإقتصادي والرأسمال الإجتماعي (ومنه يتفرع الرأسمال السياسي) والرأسمال الثقافي. وجميع هذه الرساميل تعطي أصحابها النفوذ والمكانة الإجتماعية. ومع التوزيع المتفاوت لهذه الرساميل على الفاعلين الإجتماعيين، ينقسم المجتمع إلى فئات تتحدد مكانة ونفوذ كل منها وفق ما تملكه من هذه الرساميل. أما ميزان القوى بين هذه الفئات، فنجده متجسداً في الدولة والسلطة الحاكمة إلى حين تعديله بسبب الصراع بين أصحاب هذه الرساميل وانتصار صاحب احد هذه الرساميل على الطرف الآخر. وفي المجتمعات الرأسمالية، يكون الصراع والتنافس على أشده بين أصحاب الرأسمال الإقتصادي وأصحاب الرأسمال السياسي حول امتلاك “كلمة الفصل” في إدارة المجتمع وفق مصالح كل منهما. وإذا كانت المجتمعات الرأسمالية العريقة تخضع غالباً لمنطق ومصالح أصحاب الرأسمال الإقتصادي، ففي لبنان تعود السيطرة إلى الرأسمال السياسي الطائفي، مع الإقرار بعدم انتفاء تأثيرات الرأسمال الآخر في الحالة الأولى والأخيرة. لذا فإن علاقة القوى الإقتصادية-الطبقية مع القوى التي تجسد المصالح غير الإقتصادية (النفوذ والسيطرة السياسية، مثلاً) هي علاقة غير أحادية، ولا هي علاقة تقوم بالضرورة على مبدأ أن “أ” تسبب في وجود (أو انتفاء) “ب”. النظام الرأسمالي-الطبقي لا يفرز بالضرورة نظاماً سياسياً أو إجتماعياً معيناً، دون أن يعني ذلك إسقاط التأثير المتبادل بينهما. والتأثير في هذا السياق هو بالضرورة غير متكافيء بين الطرفين، الأمر الذي يعني أن أحد الطرفين يمكن له أن يضبط ويؤطر تأثير الطرف الأخر. وعليه تتوقف “كلمة الفصل” بين الأطراف المتواجهة على ميزان القوى بين أصحاب الرأسمال الإقتصادي والرأسمال الإجتماعي والسياسي والرأسمال الثقافي، وهو ميزان يتجسد في بنية الدولة والسلطة الحاكمة. من هنا، ليس من علاقة سببية وضرورية بين النظام والسلوك الطائفيين وبين البنية الإقتصادية-الطبقية في لبنان. وفي المقابل، ليس صحيحاً القول بأنه لا يوجد أي تأثير للنظام الطائفي على البنية الإقتصادية-الطبقية، والعكس صحيح. فالمطلوب دوماً تعيين الطرف المسيطر في هذه العلاقة ورصد عوامل بقائها أو زوالها واستبدالها بسيطرة رأسمال آخر. ولا ينبغي الإستخفاف بقوة وتأثير الرساميل السياسية والإجتماعية وممثلي هذه الرساميل والمؤسسات التي تجسدها (الدولة والأحزاب السياسية والمؤسسات الدينية، إلخ). لدى هذه المؤسسات من السطوة والموارد ما يجعلها قادرة على خدمة مصالحها والسعي لإعطائها الأولية على غيرها من المصالح، الأمر الذي يجعلها تتصارع مع سطوة الرأسمال الإقتصادي والقوى الممثلة له حول ما أسميناه بـ “كلمة الفصل”، أي تعيين مصلحة أي من هذه الرساميل سوف تتحكم بمصالح الرساميل الأخرى.
أمام حالة قبول ورضى الفئات الطبقية الغنية قي لبنان، أي المستوردين وأصحاب المصارف والتجار وأصحاب بعض المصانع، بالنظام الطائفي وتداعياته لخدمة مصالحها الإقتصادية والسياسية، يُطرح السؤال عن هوية أصحاب المصلحة في إلغاء النظام الطائفي، وبناء دولة المواطنين والمواطنات المتساوين في الحقوق والواجبات.
يبدو أن الفئات الغنية المشار إليها أعلاه لا تزال تجد في الطائفية الكثير مما يخدم مصالحها، لا سيما لجهة استخدامها في إطار التنافس بين أفراد هذه الطبقة، إذْ يجري، على سبيل المثال، التمسك بالتمييز الطائفي في عملية توزيع الوكالات الحصرية على المستوردين بحجة الدفاع عن “حقوق الطائفة”. بالطبع هذا لا يعني انتفاء وجود بعض الأفراد من الأغنياء الذين يطالبون بدولة المواطنة. إلا أنهم لم يستطيعوا لغاية الآن أن يتحولوا إلى صوت يمثل غالبية البرجوازية ليتحول بذلك مشروع بناء دولة المواطنة إلى مشروعهم كطبقة بالمعنى السياسي.
أما الأصوات التي نادت بإلغاء النظام الطائفي وبناء دولة المساواة بين المواطنين، وطالبت بما يمكن إدراجه تحت عنوان العدالة الإجتماعية (تحسين أجور، تأمين الحماية الإجتماعية، توفير الطبابة والاستشفاء والتعليم المجاني، إلخ)، فقد صدرت دائماً عن تشكيلات سياسية ذات قواعد عمالية ومزارعين وطلاب وفئات من الطبقة الوسطى. ولنا في مرحلة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كما يذكر طرابلسي في كتابه، الأمثلة العديدة على ما نسوقه في هذا المجال. كما وظهرت هذه المطالب على نطاق واسع، خلال انتفاضة 17 تشرين، عام 2019، وكان الحاضن لتلك المطالب الفئات الإجتماعية نفسها مع غلبة واضحة للطلاب والطبقة الوسطى، وإنما بأطر تنظيمية لم تفلح بالإرتقاء إلى مستوى الحزب السياسي أو التحالف السياسي العريض. وفي كلا الحالتين، صمدت القوى الطائفية ومعها النظام الطائفي، رغم أن القوى التي تكونت خلال إنتفاضة 17 تشرين، تمكنت في إيصال ما يقارب ثلاثة عشر نائباُ إلى المجلس النيابي خلال انتخابات 2022.
بهذا المعنى يبقى لبنان كمجتمع ومؤسسات محكوماً بالنظام الطائفي-الرأسمالي التابع، الأمر الذي يمنع تشكيل الطبقات الإجتماعية سياسياً، أي طبقات مع برامج تسعى لبناء دولة المساواة بين المواطنين والمواطنات، وتدير نزاعات تتسم بالإنقسامات الأفقية المدنية، بدلاً من الإنقسامات العامودية الأهلية.