كلمة المطران طربية خلال اللقاء الوطني بعنوان “صوت الحق بيجمعنا”

 

 

كلمة صاحب السيادة المطران أنطوان-شربل طربيه، راعي أبرشية أستراليا ونيوزيلندا وأوقيانيا المارونية

ممثلاً صاحب الغبطة والنيافة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي

خلال اللقاء الوطني بعنوان “صوت الحق بيجمعنا” حول حق الانتشار في الاقتراع لل١٢٨ نائبًا

في 22 تموز/يوليو 2025

بدايةً أودُ أن أتوجّهَ بكلمةِ شكرٍ للقيّمينَ على هذه المبادرةِ القيّمة، عَنَيْتُ محطة الـ أم تي في والسيدة بتي هندي، بيتَ لبنان العالم، لأن هذه الندوةَ فريدةٌ من نوعها في الزمن الحاضر، وقد خُصِّصَتْ للتفكيرِ بحقوقِ من يحملونَ الجنسيّةَ اللبنانية في بلدانِ الانتشار، وخاصّةً حقّ الاقتراعِ في الانتخاباتِ النيابية.

بالتالي، لقد كلّفَني صاحبُ الغبطةِ والنيافةِ، أبينا البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الكلي الطوبى، بأن أُلقيَ كلمةً باسمِهِ وبالنيابةِ عن إخوتي الأساقفة في دنيا الانتشار.

أمّا اللقاءُ اليوم فهو أكثرُ من ندوةٍ، إنه عودةٌ إلى لبنان الفكرة والرسالة، لبنان المتجذرِ في هذه البقعةِ الجغرافية، وأغصانُهُ مشرّعةٌ لرياحِ المغامرةِ، والاكتساب والمعرفة والنجاح في كل بقاعِ الأرضِ.

فلبنانُ الفكرةِ يعودُ بنا إلى التاريخ القديم، حيث يتردَّدُ اسمُ لبنانَ أكثر من سبعينَ مرّةً في الكتابِ المقدسِ، والموضوعُ لا يتوقفُ هنا، إذ قامَ الرب يسوع المسيح بزيارة نواحي صور وصيدون عدّةَ مراتٍ. وهكذا يضحي لبنان أرضًا مقدسةً، وشعبُه المقيمُ والمنتشرُ مدعوٌّ للحفاظِ على هذا الإرثِ الثمينِ المقدس.

أمّا لبنان الرسالة كما دعاهُ البابا القديس يوحنّا بولس الثاني، فيتميز بكونه معقل حريةٍ وحركة انفتاحٍ ونموذج حوارٍ للشرقِ وللغربِ. فإذ زالت الحرية زال لبنان (لا سمح الله)، لأن الحريةَ هي رسالة لبنان واللبنانيين في الأمس كما اليوم وغدًا، وهي بالتالي ضمانةٌ للتعدديّةِ الدينيةِ والحوار والانفتاحِ فيه. هذه رسالةُ تجمع كل اللبنانيينَ على اختلافِ طوائفهم ومذاهبهم، أكانوا مقيمينَ أو منتشرين.

نلتقي اليومَ لا لنكررَ كلاماً تعرفونه عن “جناحَيْ لبنان” المقيمِ والمغترب، إنما لنُعيدَ التأكيد أنَّ لبنانَ ليس مكاناً فقط، هو معنىً وفكرةً ورسالةً. لذا، ليس مفاجئًا أن يحملَ المنتشرونُ لبنان معهم أينما حلّوا. فهو بوصلةُ الحلم والقيم والإيمان والذكريات الجميلة.

لقاؤنا اليومَ هو تكريمٌ لتاريخٍ من الغربةِ وتضحياتِها، وطرحٌ جديٌّ لتحدياتِ الحاضرِ، وعملٌ من أجل مستقبلٍ لا يتجاهلُ المنتشر، بل يقف عند كل تلك التضحياتِ والتحدياتِ والوفاءِ للبنان.

لا أظنني أحتاجُ إلى التذكيرِ بالروابط التي تجمعُ بين اللبنانيينَ المقيمينَ والمنتشرينَ. فأبناؤنا وبناتنا في بلدانِ الانتشارِ هم رسلُ لبنانَ وصوتُه في بلدانهم الجديدة، وفي كلّ المحافلِ الدوليةِ. إنهم شريانُ الحياةِ، حين تحاولُ الأزماتُ قطعَ الأوكسيجين عنه.

إنهم السندُ والدعمُ المعنوي والمادي. هم الأحرارُ والقوةُ الإيجابية والتغييرية الذين يبقونَ لبنانَ حيًّا في ضميرِ العالم.

ومع ذلك، وعلى الرغمِ من كل محبتهم ووفائهم لوطنهم الأمّ، وعملهم الدؤوبِ من أجله، يشعرونَ في كثيرٍ من الأحيانِ أنه يتمّ تقصّد تهميشهم، وتجاهلهم وإقصائهم.

فماذا يطلبُ المنتشرونَ من الدولة في لبنان؟

لا يطلبُ اللبنانيونَ في دنيا الانتشار من الدولةِ أن تواكبَ الصعوبات اليوميّة التي تواجههم في بلدانهم الجديدة، ولا يطلبون المساعدةَ لمواجهةِ التحديات، وهي – للحقيقةِ – كثيرة ومتنوعة. لكنهم يتمنّونَ على الدولةِ ألاّ تنسى أنهم أبناؤُها وبناتُها. لهم عليها حقوقٌ لا تُحمّلُها أعباءً، إنما تعكس تمسكها واعترافها بهم أسوةً بالمقيمين.

أولاً – من حقّ المغتربينَ أن تساعدَ الدولةُ على تعلّمِهم لُغَتَهُم الأمّ. فتعليمُ اللغةِ العربيةِ ليس ترفاً ثقافياً، بل هو فعل مقاومةٍ للذوبانِ، وبالمقابلِ تفعيلٌ للقدرة على التواصل مع الأهلِ والأقاربِ، وتحصينٌ للانتماء إلى الوطن الأم.

ثانيًا – من حقّ اللبناني في دنيا الانتشار أن تُحفظَ حقوقه كاملةً. حقُّهُ في حمايةِ استثماراتِهِ في وطنِهِ، وحمايةِ ملكيتِهِ، وتسهيلِ معاملاتهِ في دوائر نزيهةٍ، وإدارةٍ شفافةٍ، ومؤسساتٍ حديثةٍ، هي جميعاً مطلبُ كلّ اللبنانيين، وخصوصاً المنتشرين.

ثالثًا – من حقّ المنتشرين الحصول على الجنسية اللبنانيّة، إمّا عن طريق تسجيلِ زواجاتهم والولاداتِ في القنصليّاتِ اللبنانية في العالم، والمطلوب تسهيل هذه العملية وتشجيعها من قبل الدولة، وإمّا عبر قانون استعادة الجنسية اللبنانية. وهنا أريد أن أتوقف عند هذا القانون الذي صدر بتاريخ 25 تشرين الثاني 2015، ولكن حُصرت مهلة العمل به بعشر سنوات.

وكانت المؤسسة المارونية للانتشار قد أعدّت، مشكورة، مشروع هذا القانون، وقد قامت في السنة الماضية بإعداد مشروع قانون وقّعه 10 نواب من كافة الطوائف وقدمته إلى مجلس النواب، وهو حاليًا قيد الدرس في لجنة الإدارة والعدل، وذلك بهدف إلغاء مهلة العشر سنوات. وهذا مطلب محق للانتشار اللبناني.

رابعًا – أمّا عن حق اللبنانيينَ في الانتشار بالمشاركةِ في الانتخاباتِ البرلمانيةِ في لبنان، أعودُ إلى ما قالهُ بالأمسِ صاحب الغبطة والنيافة أبينا البطريرك الراعي الكليّ الطوبى، مؤكّدًا مضمونَ الرسالةِ التي رفعَها السادة الأساقفة مطارنة الانتشار الماروني حول هذا الموضوعِ إلى كلّ من فخامةِ رئيسِ الجمهورية، ورئيسِ مجلسِ النواب، ورئيسِ الحكومة، وغيرهم. وقد قال غبطتُهُ:

“في خضمّ الأخطارِ التي تهدّدُ لبنان في كيانِه ووجودِه من جرّاء ما يحدثُ فيه ومن حولِه، نشهدُ اليومَ، وبكلّ أسفٍ، خلافًا وانقسامًا بين السّياسيّين حولَ المادةِ 112 من قانونِ الانتخاباتِ النيابيّةِ الحالي. فقد عُلِّقَتْ هذه المادّة، وبحقٍّ، في انتخابات 2018 و2022، لعدمِ صحّتها؛ فاستحداث ستّ دوائر انتخابيّة للبنانيين غير المقيمين مخالفٌ لمبدأ المساواة في الحقوقِ والواجباتِ بين المواطنين المقيمين والمنتشرين، وهو مبدأٌ يضمنُه الدستور والنظام الديمقراطي عندنا.

إنّ حصرَ المنتشرينَ في ستةِ مقاعد نيابيةٍ يتعارضُ مع مبدأ ربطِهم بوطنِهم وأرضِهم وأهلِهم ومشاركتِهم في الحياةِ السياسية اللبنانيّة. ما نشهدهُ في المادة 112 هو عمليةُ إقصاءٍ تُلغي حقّ المنتشرين الطبيعي بالتصويتِ في كلّ الدوائرِ الانتخابيّةِ المئةِ والثماني والعشرين على مساحة الوطن. إنّ اللبنانيينَ في الانتشارِ يتطلّعونَ إلى المشاركةِ في الانتخاباتِ النيابيةِ المقبلة بكلّ حريّةٍ في دوائرهم الانتخابيّة، حيث مكانُ قيدِهم في لبنان. فلا بدّ، من أجلِ حمايةِ الوحدة الداخليّة، من إلغاء المادة 112 من قانون الانتخاب الحالي”.

وهنا أريد أن أضيف أنّه من حق المنتشرين أيضًا أن يُفتح باب التسجيل للانتخابات النيابية قبل سنة على الأقل من موعدها، ليتسنى لهم التسجيل، وبالتالي الإدلاء بأصواتهم في الوقت المحدد. لكن من المؤسف أنّه، ولغاية الآن، لم يبدأ التسجيل للانتخابات المقبلة، مما لا يعطي الوقت الكافي، ولا يترك انطباعًا جيدًا عن اهتمام المسؤولين في لبنان بالمنتشرين.

أيها الأحباء،

ليسَ اللبنانيُّ في الانتشارِ طارئاً على وطنِه، بل هو شريكٌ كامل الأهليّة، وصاحبُ رأيٍ وموقفٍ مبدئيّ. ومن حقِّه على دولتهِ أن يكونَ شريكاً في صناعةِ القرارِ والخياراتِ الوطنية. من حقّهِ أن ينتخبَ ويختارَ من يُجَسّد له طموحاتِه ويبني معه الوطن الحلم، الذي كان وسيبقى دومًا، واسمه لبنان.

فلنتوحّد حولَ ضمانِ حقوقِ المنتشرينَ، ولنرتفع بلبنانَ إلى حيثُ يستحقّ ونستحقّه جميعًا، مقيمين ومنتشرين. ولنحملْ لبنانَ معنا أينما كنّا، لا كجُرحٍ مفتوحٍ، بل كرسالةِ حرّيةٍ، ودعوةٍ دائمةٍ للحياةِ، وفكرةٍ شيّقةٍ للعطاءِ والإبداعِ عبرَ التاريخ.

وشكرًا.