سركيس كرم
قبل ثلاثة أشهر فقط من موعد الانتخابات الفيدرالية الأسترالية، كانت معظم استطلاعات الرأي تشير إلى تقدم الائتلاف بقيادة بيتر داتون على حزب العمال بزعامة أنتوني ألبانيزي. وقد أظهرت تلك الاستطلاعات حينها أن داتون بدأ يُطرح بجدية كمرشح لرئاسة الحكومة، بعد تقارب نسبة التأييد بينه وبين ألبانيزي فيما يتعلق بمن هو “المرشح المفضل لرئاسة حكومة أستراليا”.
بمرور الوقت، أدى الخطاب المحافظ والمتشدد لداتون في بعض القضايا، كدعمه لسياسات الهجرة المثيرة للجدل، مثل إرسال طالبي اللجوء إلى مراكز احتجاز خارجية، وانتقاداته الحادة للصين وخططها التوسعية، إلى مقارنته بالرئيس الأميركي دونالد ترامب. ويبدو أن هذه المقارنة قد رسّخت في أذهان بعض الناخبين صورة نمطية تربط داتون بأسلوب ترامب.
ومع تراجع شعبية الرئيس الأميركي بشكل سريع نتيجة فرضه تعريفات جمركية على دول العالم، بما فيها أستراليا، انعكس هذا التراجع سلبًا على صورة داتون، وأسهم في صعود متأخر لحزب العمال في استطلاعات الرأي.
مع اقتراب نهاية الحملة الانتخابية، حاول داتون النأي بنفسه عن ترامب، وفي المناظرة الأخيرة بين القادة، كرر مرارًا أنه لا يعرف ترامب شخصيًا، قبل أن يجيب بتردد عن أسئلة متعلقة به. لكن ما زاد الطين بلّة هو أن داتون كان قد وصف ترامب في وقت سابق من العام الجاري، قبل فرض التعريفات، بأنه “مفكر كبير” و”ذكي”. وقد حاول طيلة أسابيع إقناع الناخبين بأنه السياسي الأنسب للتعامل مع ترامب، لكن الناخبين لم يقتنعوا في النهاية.
أثارت تعرفة ترامب الجمركية، التي وُصفت بأنها غير عادلة وغير مدروسة، قلق الأستراليين، خاصة في ظل اضطراب الأسواق المالية بسبب سياساته التجارية. ويبدو أن الثقة الشعبية بأحد أبرز حلفاء أستراليا، الولايات المتحدة، قد اهتزت. ووفقًا لاستطلاع أجراه معهد “لوي”، فإن نسبة ثقة الأستراليين بالولايات المتحدة تراجعت إلى 36% فقط، بانخفاض قدره 20 نقطة مئوية عن عام 2024.
كل هذه التحولات صبّت في غير مصلحة داتون، وأسهمت في تعزيز فرص ألبانيزي. وقد زادت الأمور تعقيدًا بفعل الخطاب الانتخابي المرتبك للائتلاف، في مقابل حملة منضبطة ومنظمة قادها حزب العمال، ظهر فيها ألبانيزي أكثر وضوحًا وثقة في شرح سياساته.
قاد داتون حملة متعثرة شابها التراجع عن عدة وعود، منها خطته لتقليص وظائف القطاع العام، التي قُدرت بـأكثر من 40 ألف وظيفة، ما أعاد إلى الأذهان برنامج “دوج” الذي أطلقه الملياردير إيلون ماسك، الحليف المقرب من ترامب. كما تراجع عن خطته لإعادة الموظفين إلى المكاتب بدلًا من العمل من المنزل، بعدما تبين أنها غير شعبية. هذا التراجع ترك انطباعًا بأن خطط داتون تفتقر إلى الدقة والتخطيط السليم.
فوق ذلك، فشل الائتلاف في تقديم شرح وافٍ لمشروع بناء مفاعلات نووية لإنتاج الطاقة، ولم ينجح في دحض تقديرات ألبانيزي بأن كلفة المشروع ستتجاوز 600 مليار دولار. وقد شكّل هذا المشروع مصدر قلق إضافي للناخبين، الذين فضّلوا في نهاية المطاف خيارًا “آمنًا” و”أقل تكلفة”، مثّله حزب العمال.
في النهاية، قال الناخب الأسترالي كلمته، مؤكدًا التزامه بالديمقراطية، ورافضًا السير خلف السياسات الأميركية دون تمحيص. وأثبتت نتائج الانتخابات أن الناخب لا يتأثر بشعبوية السياسة ولا بهرجة التحالفات، بل يتطلع إلى وعود واضحة وعملية، تعالج أزمات المعيشة والطاقة وغيرها.
نتمنى لرئيس الحكومة، أنتوني ألبانيزي، التوفيق في مهمته الشاقة، لعلّه ينجز في ولايته الثانية ما لم يُنجز في الأولى. ونتمنى لبيتر داتون كل الخير في مسيرته الجديدة بعيدًا عن تعقيدات السياسة ومقارباتها غير المنصفة.