أحبّائي، أبناء وبنات أبرشيتِنا المارونية،
وعلى الأرضِ السَّلام
- عِندما وُلِدَ الرَّبُ يسوع في مغارةِ بيتَ لحم، شَهِدَت سَماؤها ليتورجيا سَماويَّة احتَفَل بِها ملائِكةُ الله بذاك الذي قالَ عنهُ إشعيا: “الشَّعبُ السائرُ في الظُلمةِ أبصَرَ نوراً عظيماً” (أشعيا 9: 2)، َوقَد أنشَدَ جنودُ السماء ليلةَ الميلاد نشيداً عظيماً: “المجدُ لله في العُلى وعلى الأرضِ السَّلام والرَّجاءُ الصالحُ لبني البشر” (لوقا 2-14).
- هذا النَّشيدُ الملائكي، الذي صارَ نشيداً لكنيسةِ الأرضِ نردّدُهُ دوماً في قداسِنا وصلواتِنا وطقوسِنا الليتورجية، إذ يتضمَّنُ المَعاني الميلاديّة الأساسيّة من مجدٍ وسلامٍ ورجاء.
المَيلاد هو مجدُ اللهِ
- يقول القديس إيريناوس إنَّ مجدَ الله هو الإنسانُ الحي. كلمةُ الله المتجسِّد والذي صارَ إنساناً هو هذا الإنسانُ الحي والمُحيي والذي يُعطي حياةً أبديةً لكلّ مَن يُؤمنُ به. وبفعل محبة، خلق الله الكون وانتَشَلَ الإنسانَ من العدمِ وأعطاهُ الوجودَ والحياة، ولكن الإنسان وقع في الخطيئة وضلّ. وبذات فعل المحبة، أرسَلَ الله ابنَهُ الوحيد ليُخَلِّصَهُ من الخطيئةِ والموت. وبسرّ التَّجسُّدِ الإلهي، اتَّحدَ الربُ يسوع بالطَّبيعةِ البشريَّة، وشابَهَنا بكلِّ شيءٍ ما عدا الخطيئة. إنه الإنسانُ الجديد الذي أظهَرَ مجدَ اللهِ وعظمةَ محبَّتِهِ لكلِ إنسان، فتصبح دعوةُ الإنسانِ الأساسيَّة أن يمجّدَ الله في حياتِهِ وأعمالِهِ وأقوالِهِ، ولذلك نرَدِّد مع الملائكة وبحسبِ التقليدِ الرهباني في كنيستِنا: “المَجد لله…دايماً لله”.
والميلاد هو سَّلام الله
- من الواضحِ اليوم وبكل أسف أنَّه لا سلامَ في أماكنَ عديدةٍ من الأرض، فأخبارُ الحروبِ والنزاعات بين الأفرادِ والشعوب والتي نسمعُها ونشاهِدُها، تجعلُنا نتألَّمُ ونَقلق، لأنَّ السَّلامَ الموعود على الصَّعيدِ الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي منقوصٌ وهَشّ. ولكن عندما ننظُر الى وجهِ الطفل يسوع المُشِع بأنوارِ السَّماء يدخلُ السَّلامُ الى قلوبِنا لأنه هو سلامُنا وقد بَشَّرَ بالسَّلامِ الأبعدينَ والقريبين (أفَسُس 2-14و17).
- فالميلادُ دعوةٌ مستمرة لكي نختبرَ سلامَ الله في قلوبِنا وحياتِنا بمعزلٍ عمّا يجري من حولنا. والسَّلامُ عطيَّةٌ من اللهِ لنا بحسب انجيل القديس يوحنّا: “سلامي أعطيكم” (يوحنا 14-27)، لأنَّه من دونِ سلامِ الله في القلوب لا سلامَ في العائلة، ومن دونِ سلامٍ في العائلة لا سلامَ في المجتمع، ومن دونِ سلامٍ في المجتمع لا سلامَ في الدَّولة، ومن دونِ سلامٍ في الدُّوَل وبين الشُّعوب لا سلامَ في العالم. فالسَّلامُ رسالةُ السماءِ الى أرضِنا في عيد الميلاد ونحنُ مدعوُّونَ لقبولِها في قلوبِنا واعتمادِها في حياتِنا، لأن السَّلامَ ليس عطيَّة من اللهِ نَقبَلُها وحسب، انما هو اختيارٌ ومسيرة، نعمل على تواصلهما وبنائهما كلَّ يوم، فنكونَ صانعي السَّلام وليس مُحبّي السَّلام فقط، وفقاً لإنجيلِ التَطويبات: “طوبى لفاعلي السَّلام، فإنَهم أبناءَ اللهِ يُدعَوْن” (متى 5-9).
والميلاد هو عيد الرَّجاءُ
- بميلادِ الرب يسوع، وُلِدَ الرَّجاءُ في قلوبِ البشر وأصبحَ لحياةِ الإنسانِ ووجودِهِ معنى وغاية. هذا الرجاء اختبرَهُ الرعاةُ الذين أتَوْا مسرعين إلى مغارةِ بيتَ لحم حيث رأوْا مريم ويوسف والطفلَ الإلهي في مزودٍ، وآمنوا بما قيلَ لهم من الملائكة، ورجعوا مهلّلينَ فرحين، يمجّدونَ الله.
- هذا الرجاء يختبرُهُ كلُّ فردٍ منّا عندما نُصغي إلى صوتِ الربِ يسوع يُنادي بصوتٍ مِلؤهُ الحُبُّ والحنان: “تعالَوْا إليَّ جَميعاً، أيُّها المُتعَبونَ والثقيلو الأحمال، وأنا أُريحُكم” (متى ١١-٢٨)، لأن الله وحده قادر أن يعطينا رجاءً حقيقياً ثابتاً لا يتغيَّر.
- فالميلادُ يفتحُ أبوابَ الرَّجاءِ في عالمِنا الذي يتخبَّطُ على جدرانِ الماديَّةِ والمجتمعاتِ الاستهلاكيَّة، وهو يدعونا لنكونَ أبناءَ الرَّجاءِ ورُسُلَهُ لإنسانِ اليوم، لأنَّ المستقبلَ في أيدي الذين يزرعونَ الرجاءَ في النُّفوس.
أيُّها الأحباء،
- نَشكُرُ الرَّبَ على فيضِ نعمِهِ وبركاتِهِ علينا في هذه السَّنةِ التي احتَفلنا فيها باليوبيل الخمسين لتأسيسِ أبرشيَّتِنا المارونيّة، ونتطلَّعُ إلى السنةِ الجديدة بإيمانٍ ثابتٍ باللهِ وبرجاءٍ متجدِّد. ومع إعلانِ قداسةِ البابا فرنسيس السنةَ القادمة “سنةَ الصَّلاة”، نتَّحدُ معاً بالصَّلاةِ من أجلِ السَّلامِ في العالمِ كلِّهِ وخاصةً في الأراضي المقدَّسة ولبنان، ونطالِبُ بوقفٍ فوري للحربِ والقتلِ والدَّمار لأنَّ الأرضَ التي وُلدَ وعاشَ فيها الربُ يسوع المسيح، يجب أن تكونَ دوماً واحةً للحبِ والعدلِ والسَّلام.
- إنَّ السَّلامَ المنشود على الأرضِ ليس بوقفِ الحروب وإسكاتِ أصواتِ المدافع، وليس برنامجاً اجتماعياً أو اقتصادياً، وليس فلسفةً أو أفكاراً إصلاحيَّةً فحَسب، إنَّما السَّلامُ المنشود على الأرض هو شخصٌ اسمُهُ يسوع المسيح وهوَ أميرُ السَّلامِ الحقيقي ومصدرُهُ. والسَّلامُ الذي يعطيهِ هوَ ليسَ كما يعطيهِ العالم، لأنَّهُ حقيقي ودائمٌ وأبَدي. هذا السَّلام وُلِدَ في مغارةِ بيتَ لحم، وتَجلّى على الصليب، وأشرقَ أنواراً خلاصيَّةً في القيامة، فانجَلَتِ الظُّلُمات وانكسر الشرّ وانبلجَ فجرُ الحياةِ الجديدة.
وُلدَ المسيحُ … هللويا!
سيدني في ٢٤ كانون الأول 2023
+ المطران أنطوان-شربل طربيه
راعي أبرشيَّة أوستراليا، نيوزيلاندا وأوقيانيا المارونيَّة