سركيس كرم
في المتراس.. تتنشق رائحة البارود …رائحة الموت.. فهنا تنتفي لغة العقل والمنطق… وهنا تتحكم بمصيرك رصاصة تنطلق من بندقيتك.. تخرق ظلمة الخوف.. تصطدم بجدار الآخر.. من ثم تعود لتصيبك في الصميم ..
في المتراس.. تقف خلف أكياس الرمل وكأن عقارب الساعة قد تجمدت، متمنياً أن لا يلفظ المستقبل أنفاسه الأخيرة..
وبعدما تنجو وتعود عقارب الزمن الى حركتها المعتادة، تدرك أهمية الدروس التي لقنتك إياها الحرب!
*****
وماذا علمتني الحرب!!
علمتني الحرب ان من لم يتعلم من مآسيها لا تعنيه المعاناة الانسانية على الإطلاق ولا تهمه حقوق الانسان وحريته ولا كرامته ولا رغبته بالعيش في أمان وطمأنينة واستقرار..
وعلمتني ان السلاح أعجز من فرض مشيئة الظالم، مهما أشتد ساعده، إلا في فترات مرحلية ينتهي مفعولها مع بزوغ فجر العدالة والحقيقة..
وان القذائف قادرة على تدمير كل ما تصيبه إلا الحق..
وان الرصاص يقتل مطلقه قبل ضحاياه..
*****
علمتني الحرب انه مهما تعاظمت القوة وأشتد جبروتها تظل أضعف من ان تتغلب على ارادة الحياة الحرة..
وان القوي الحقيقي هو من يسعى الى السلام بكل ما أوتي به من عزيمة وقدرة..
وانه ما من أحد يقدر على إلغاء الآخر داخل الوطن الواحد مهما تفوق عليه عدداً وعدة..
*****
علمتني الحرب ان لا نقع في أتونها من جديد لأنه في نهاية المطاف ما من أحد ينتصر فيها وخاصة على ابناء وطنه..
وان دماء الشهداء يستثمرها في معظم الأحيان من يتغاضون عن سمو الاستشهاد، ولا يثمنّون قيمة التضحية، ولا يحفظون من “القضية” سوى ما يخدم مآربهم الشخصية..
*****
علمتني الحرب ان من يستعين بالعنف هو الذي يفتقر الى الحجة والمنطق والواقعية، ولا يرغب بأن يتجاوز حجم الوطن حجم محدودية عصبيته وعنجهيته وحقده ورغبته بالتسلط التي لا تؤدي إلا الى التناحر والفشل الذريع وبالتالي الى سقوط الجميع..
وعلمتني ايضًا كيف أتحرر وأحرر رؤيتي لكي أرى الأمور بصورة واضحة ومن مختلف الزوايا والجهات..
وأثبتت لي ان الحوار هو السبيل الصحيح للتوصل الى حلول وقواسم مشتركة..
*****
علمتني الحرب ان وطني بحاجة ماسة الى أناس يريدونه حقاً موطنًا للتعايش بكرامة ووئام وصدق..
وأكدت لي تجاربها انه لا قيامة للأوطان إلا بقيام دولة تحمي ناسها وتضمن حقوق كل مواطن وحرياته، وتتعزز بتحصيل ما على المواطن من واجبات..
وانه يتعين علي وعلى شريكي في الوطن الوصول الى قناعة لا لبس فيها وهي ان الولاء لا يكون إلا لوطننا وحده فقط لا غير، وذلك تحت لواء المساواة والقانون وشرعية الدولة الناجزة ..
*****
مهما استقوى فريق على آخر ومهما اشتد سواد الليل، ستشرق شمس الأمل التي لا بد من ان تنتصر لأنها تستند الى مقومات انسانية من المستحيل إزالتها.
وان ما يرضي الرب لم يكن يوما في القوة والاستقواء والمكابرة، بل في عظمة المحبة ونبل الانسانية وارادة العيش الواحد..
ففي الحرب ينهزم عملياً من يظن انه الطرف الرابح ليتساوى كافة الأطراف في الخسارة..
*****
ويظل الأهم والأبرز ان الحرب قد رسّخت في ذهني ووجداني ان لبنانيتنا هي ليست هوية وانتماء فقط، وإنما هي بيتنا وملاذنا وكرامتنا وتميزنا وابداعنا وفخرنا ووحدتنا وقوتنا ومستقبلنا..