سركيس كرم
غيره من القادة امتلك القوة والجبروت العسكري والجيوش الجرارة والقدرات الهائلة التي لا توظف إلا في خدمة الذات ورغبات التسلط على حساب العدالة والحق..
اما هو فلم يمتلك سوى إيمانه ودرايته ورؤيته وتسامحه وحسه الإنساني.
غيره من الرؤساء سعى ويسعى الى فرض مشيئته وسلطته بالبطش والحقد واللاإنسانية، غير آبهاً بعذابات الضعفاء ومعاناة المقهورين وصراخ المظلومين، متغاضياً دوماً عن ما تعنيه المحبة والقيم والتعاليم الروحية..
أما هو فلم يسع يوماً إلا لنشر مشيئة الرب وتعاليمه من أجل إحلال السلام في القلوب والنفوس ومؤازرة الضعيف والمظلوم والمحتاج.
غيره من المسؤولين غرق ويغرق كل لحظة بالأنانية وتمجيد الذات والأبهيات ويمضي قدماً في عبادة الماديات والمظاهر ويأبى التحرر من داء التكبر..
اما هو فعاش للجميع إلا لذاته، وخدم الكل إلا غاياته الشخصية، وكان النموذج الصالح للإنسان الذي لا يعرف الكبرياء ولا تعنيه الماديات ولا تغريه المكاسب الآنية البعيدة كل البعد عن رسالة الرب.
لقد أثبت قداسة البابا فرنسيس بعظمة تواضعه وبما جسّده من روحانية الإيمان، وما تمتع به من فضائل، وما عاشه من قيم، وما أعلنه من مواقف انسانية، انه الأقوى انسانياً برسالته السامية، والأكثر تأثيراً بكلماته التي لامست القلوب والوجدان والضمير.
هو الذي رسّخ كما أسلافه، دور الفاتيكان الرائد وضمن استمراريته من خلال قيادته الحكيمة التي ارتكزت على تعاليم المسيح واستمدت فعاليتها من دينامية التسامح وقوة الغفران وسمو المحبة، وتنامت من مد يد الإنفتاح والمساعدة للغير بغض النظر عن خلفياته ودينه وتوجهاته.
وهو الذي أكد ان السبيل الى قلب الرب لا يلزمه سوى التمسك بالمحبة وممارستها بعفوية وصدق في كافة أعمال الإنسان وتصرفاته.. وان الطريق الى السلام والعدالة يلزمها الكثير من تعزيز ارادة التلاقي والحوار عبر التسلح بمتانة التسامح وبقدسية التواضع والتضحية.
يرحل قداسة البابا فرنسيس يوم عيد القيامة وبعد ساعات من مباركته المؤمنين في ساحة الفاتيكان وكأنه يودعهم، ويودع كنيسته على هذه الأرض، ويودع العالم الذي أحب من دون تمييز، لينتقل الى حيث رئيس الكهنة أجمع ينتظره ليغمر روحه برضاه وبرحمته.
يرحل قداسته تاركاً إرثاً من الأعمال والمواقف النبيلة والدعوات التبشيرية والحوارات المثمرة بين الأديان والشعوب، فضلاً عن الوثائق التاريخية المساهمة بصورة كبيرة في تقريب الناس الى بعضها وإزالة حواجز الحقد والتفرقة من أمامها، وأبرزها “وثيقة الأخوة الإنسانية – من أجل السلام العالمي والعيش المشترك” التي وقعّها قداسته مع شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب والتي شكّلت واحدة من أهم الوثائق في تاريخ العلاقة بين الإسلام والمسيحية.
يرحل قداسته بعد ان كرر قبل ساعات من وفاته، دعوته إلى “إنهاء النزاعات في مناطق مختلفة من العالم” مشدداً “كلنا أبناء الله وعلينا دوماً تجديد ثقتنا تجاه أولئك الذين يختلفون عنا”.
وداعاً يا من كتب في وصيته ما يعكس شخصيته ويختصر أخلاقياته وأسلوب عيشه، قائلاً “أطلب أن يُهيأ قبري ويكون بسيطًا، بدون زخرفة خاصة، ولا يُكتب عليه سوى: فرنسيس”.
وداعاً قداسة البابا فرنسيس.. يا من برهنت طوال حياتك ان التواضع كان وما زال أعظم من كل الماديات والأنانيات البائدة والثروات الزائلة، وان المحبة هي القادرة على شق السبل الى السلام الحقيقي بين الشعوب وبين الأفراد كذلك، وانها الوسيلة الوحيدة التي تخولنا الدخول الى قلب الرب.
ليرحم روحك الرب ولتنعم مع الأبرار والصديقين بمجده السماوي..