سوليكا علاء الدين
على الرغم من انقضاء أكثر من ثلاثة أشهر على سريان وقف إطلاق النار، إلا أن تداعيات الحرب ما زالت تلقي بأعبائها الثقيلة على الاقتصاد اللبناني. إذ تُعد حرب أيلول من أكثر الحروب قسوة على لبنان، سواء من حيث الخسائر البشرية الفادحة أو الأضرار المادية التي لحقت بالبنية التحتية والقطاعات الاقتصادية. وفي إطار تقييم الوضع الراهن، أصدر البنك الدولي، بناءً على طلب الحكومة اللبنانية، تقريره السنوي للتقييم السريع للأضرار والاحتياجات في لبنان لعام 2025(RNDA) ، والذي أشار إلى أن الأضرار التي لحقت بالأصول المادية تُقدّر بنحو 6.8 مليارات دولار، في حين تم تقدير الخسائر الاقتصادية الناتجة عن الصراع بنحو 7.2 مليارات دولار. من جهتها، قد تصل احتياجات إعادة الإعمار والتعافي إلى نحو 11 مليار دولار، وهو رقم يعكس حجم الأضرار الكبيرة التي تعرض لها لبنان ويؤكد الضرورة الملحة لتطبيق استراتيجيات فاعلة واستقطاب التمويل بهدف إعادة بناء الاقتصاد واستعادة التعافي.
صراع يعمّق الركود
التقرير تطرّق أيضاً إلى مؤشرات الاقتصاد الكلي، بحيث تُظهر التقديرات المحدثة من البنك الدولي أن الصراع أدّى إلى تقليص نمو الناتج المحلي الاجمالي للبنان في 2024 بمقدار 8 نقاط مئوية، مع توقع انخفاضه بنسبة 7.1 في المئة مقارنة بتوقعات سابقة كانت تشير إلى نمو قدره 0.9 في المئة. بحلول نهاية العام، بلغ الانخفاض التراكمي للناتج المحلي الاجمالي منذ 2019 نحو 40 في المئة. فاقم الصراع الركود المستمر بسبب التخلف عن السداد السيادي، تراجع العملة، الأزمة المصرفية، قلة الاستثمار، وتدهور الخدمات العامة. كما ساهم تدمير المخزون الرأسمالي وهجرة العمالة الماهرة في تفاقم الأزمة، ما يزيد من المخاطر الاقتصادية ويؤثر سلباً على النمو المستقبلي للبنان.
قطاعات حيوية تحت الضغط
يسلّط التقييم الضوء على التأثيرات المباشرة وغير المباشرة للصراع على عشرة قطاعات حيوية، وهي: الزراعة والأمن الغذائي، التجارة والصناعة والسياحة؛ التعليم؛ البيئة وإدارة الردميات؛ الطاقة؛ الصحة؛ الإسكان؛ الخدمات البلدية والعامة؛ النقل؛ المياه والصرف الصحي والري، وذلك خلال الفترة الممتدة من 8 تشرين الأول 2023 إلى 20 كانون الأول 2024. وفي ما يلي أبرز التقديرات الواردة في التقييم بشأن كل قطاع:
أسفر الصراع عن أضرار تقدّر بنحو 79 مليون دولار في قطاعي الزراعة والأمن الغذائي، بينما بلغت الخسائر نحو 742 مليون دولار. وتعكس هذه الخسائر بصورة رئيسية الايرادات المفقودة نتيجة انخفاض الانتاج أو تلف المحاصيل، ما حال دون وصول المنتجات الزراعية إلى السوق. وفي ما يتعلق بالاحتياجات، تقدّر احتياجات القطاع الزراعي والأمن الغذائي بنحو 412 مليون دولار.
وفي قطاعات التجارة والصناعة والسياحة، أدى الصراع إلى أضرار كبيرة، بحيث قدرت الخسائر بنحو 612 مليون دولار. وكان قطاع السياحة الأكثر تضرراً، بحيث استحوذ على 27 في المئة من إجمالي الخسائر. وتحتاج عملية التعافي الى نحو 1.8 مليار دولار، منها 34 في المئة مخصصة لقطاع السياحة. على المدى القصير، تركز احتياجات التعافي على إصلاح المنشآت المتضررة جزئياً وكلياً وتوفير رأس المال العامل، بحيث تقدر بنحو 885 مليون دولار. أما على المدى المتوسط والطويل، فقد تصل الاحتياجات إلى نحو 817 مليون دولار و147 مليون دولار على التوالي.
في قطاع التعليم، ألحق الصراع أضراراً تقدر بـ 151 مليون دولار، بينما بلغت الخسائر المقدرة نحو 414 مليون دولار. تشمل هذه الخسائر 378 مليون دولار من الدخل المفقود بسبب إغلاق المدارس الخاصة، و36 مليون دولار من التكاليف الاضافية لتشغيل مدارس بديلة. وتبلغ احتياجات التعافي في هذا القطاع ما يقارب الـ554 مليون دولار، تتوزع على محورين رئيسيين: 226 مليون دولار لإعادة بناء البنية التحتية و327 مليون دولار لاستعادة تقديم الخدمات.
وفي ما يخص قطاع الطاقة، أحدث الصراع أضراراً تقدر بـ 98 مليون دولار، بينما بلغت الخسائر 209 ملايين دولار. أما احتياجات التعافي فتُقدّر بنحو 147 مليون دولار، تشمل 127 مليون دولار لإعادة بناء البنية التحتية لشبكة الكهرباء، و20 مليون دولار لاستعادة تقديم الخدمات. على المدى القصير، تقدّر الاحتياجات بنحو 66 مليون دولار، بينما يحتاج المدى المتوسط إلى 79 مليون دولار لإعادة بناء الأصول المتضررة.
أما في قطاع البيئة وإدارة الردميات، فقد أسفر الصراع عن أضرار بقيمة 512 مليون دولار، بينما بلغت خسائر القطاع 790 مليون دولار. وتبلغ احتياجات التعافي في هذا القطاع ما يقارب الـ 444 مليون دولار.
وفي قطاع الصحة، تسبّب الصراع في أضرار كبيرة بلغت نحو 208 ملايين دولار، بينما قُدرت الخسائر بنحو 700 مليون دولار. وتوزعت الخسائر على النحو التالي: انخفاض الايرادات من المنشآت غير العاملة (605 ملايين دولار)، وزيادة تكاليف العلاج بسبب الإصابات والأمراض الناتجة عن النزاع والنزوح (51 مليون دولار)، وتراجع توافر الكوادر الطبية في المناطق المتأثرة، ما أدى إلى زيادة الوفيات والأمراض (44 مليون دولار). وتبلغ احتياجات التعافي في القطاع الصحي نحو 409 ملايين دولار. وقد تم تخصيص 123 مليون دولار للمدى القصير لتركيز الجهود على تأمين إمدادات الأدوية والمعدات الطبية، وإصلاح المنشآت الصحية المتضررة. أما احتياجات المدى المتوسط، فتُقدّر بنحو 82 مليون دولار لتحسين القدرة على التكيف مع الكوارث وتعزيز الرقمنة في القطاع الصحي.
كذلك، تضرّرت نحو 162,900 وحدة سكنية جراء الصراع، ما يشكل نحو 10 في المئة من المخزون السكني قبل الصراع، الأمر الذي أسفر عن أضرار هائلة تقدر بما يقرب من 4.6 مليارات دولار. كما ألحق الصراع خسائر تقدر بنحو 363 مليون دولار. وتبلغ احتياجات التعافي وإعادة الإعمار في قطاع الإسكان نحو 6.3 مليارات دولار. وتتطلب إعادة بناء البنية التحتية نحو 6.2 مليارات دولار، بينما تقدر احتياجات استعادة خدمات الإسكان بـ 61 مليون دولار. وقُسّمت الاحتياجات إلى ثلاث مراحل: 1.7 مليار دولار للاحتياجات العاجلة، 2.5 مليار دولار للاحتياجات قصيرة المدى، و2 مليار دولار للاحتياجات متوسطة المدى، وذلك بهدف ضمان استقرار الوحدات المتضررة على المدى القصير وتحقيق إعادة إعمار مستدامة.
بالاضافة إلى ذلك، تسبّب الصراع في أضرار جسيمة لقطاع الخدمات البلدية والعامة، بحيث بلغت قيمة الأضرار 41 مليون دولار، بينما سجلت الخسائر نحو 192 مليون دولار. وتبلغ احتياجات التعافي وإعادة الإعمار لهذا القطاع ما يقارب الـ 76 مليون دولار. تتطلب إعادة بناء البنية التحتية 62 مليون دولار، وتشمل هذه التكلفة إصلاح المنشآت المتضررة جزئاًا، والتي تقدر تكلفتها بنحو 25 مليون دولار، وإعادة بناء المنشآت المدمرة بالكامل، والتي تم تقدير كلفتها بنحو 37 مليون دولار. كما تصل احتياجات استعادة خدمات تقديم الخدمات بـ 14 مليون دولار، بحيث تبلغ الاحتياجات العاجلة 29 مليون دولار، بينما تصل احتياجات المدى القصير والمتوسط إلى نحو 32 مليون دولار و15 مليون دولار على التوالي.
بدوره، لم يسلم قطاع النقل من تداعيات الصراع، الذي تسبّب في أضرار قُدرت بنحو 198 مليون دولار، في حين بلغت الخسائر نحو 173 مليون دولار. وتُقدّر احتياجات التعافي وإعادة الإعمار في هذا القطاع بنحو 302 مليون دولار. تتطلّب الاحتياجات العاجلة استعادة الوصول إلى الخدمات الأساسية وفرص العمل من خلال تأهيل الطرق والجسور المتضررة، بينما تقدّر الاحتياجات على المدى القصير والمتوسط بنحو 151 مليون دولار و75 مليون دولار على التوالي، مع تركيز على استعادة الاتصال بين المناطق السكنية والخدمات التجارية.
أما في قطاع المياه والصرف الصحي والري، فقد أسفر الصراع عن أضرار جسيمة تقدر بنحو 356 مليون دولار، فيما بلغت الخسائر نحو 171 مليون دولار. وتقدر الاحتياجات اللازمة للتعافي وإعادة الإعمار في هذا القطاع بنحو 508 ملايين دولار. تشمل الاحتياجات العاجلة التي تقدر بما يقرب من 144 مليون دولار، توفير الطاقة لتشغيل المنشآت المائية، واستعادة خدمات المياه ومراقبة جودتها. أما على المدى القصير والمتوسط، فتُقدر الاحتياجات بنحو 264 مليون دولار و100 مليون دولار على التوالي، مع توجيه الاهتمام نحو إعادة تأهيل البنية التحتية وتحسين كفاءة القطاع.
الجنوب.. الأكثر تضرراً
من حيث التوزيع الجغرافي، تشير التقييمات إلى تفاوت في مستوى الضرر بين المحافظات، بحيث تُعد محافظتا النبطية والجنوب الأكثر تضرراً من بين المحافظات التسع التي تم تقييمها، تليها محافظة جبل لبنان. فقد تكبدت النبطية أكبر الأضرار التي بلغت 3.2 مليارات دولار (47 في المئة من الاجمالي)، مع أعلى الخسائر التي قدرت بـ 2.0 مليار دولار (28 في المئة من الإجمالي) وأكبر الاحتياجات التي تقدر بـ 4.7 مليارات دولار (43 في المئة من الإجمالي). تليها محافظة الجنوب التي تمثل 23 في المئة من الأضرار و23 في المئة من الخسائر و22 في المئة من الاحتياجات. كما تأثرت محافظة جبل لبنان، بما في ذلك الضواحي الجنوبية لبيروت، التي تمثل 16 في المئة من إجمالي الاحتياجات.
وتتركّز الاحتياجات بصورة رئيسية في محافظة النبطية، التي تمثل 43 في المئة من الاجمالي، تليها محافظة الجنوب بـ 22 في المئة ، ثم محافظة جبل لبنان بـ 16 في المئة. ويمكن تقسيم هذه الاحتياجات إلى فئتين رئيسيتين: الأولى تتعلق بإعادة بناء البنية التحتية وتأهيل الأصول، التي تقدر بـ 8.8 مليارات دولار، والثانية تتعلق باستعادة تقديم الخدمات وضمان الوصول إلى السلع، التي تقدر بـ 2.1 مليار دولار.
التمويل والتعافي الشامل
وفي ما يتعلق باحتياجات التعافي وإعادة الإعمار، واستناداً إلى خصوصيات كل قطاع، توقّع البنك الدولي أن يتم تمويل هذه الاحتياجات، البالغة 11 مليار دولار أميركي، من مجموعة متنوعة من المصادر، بما في ذلك التمويل المحلي والدولي. وتوزع هذه الاحتياجات على المدى القصير، بحيث تقدّر احتياجات السنوات الثلاث الأولى (2025-2027) بحوالي 8.4 مليارات دولار، بينما تقدر احتياجات المدى المتوسط (2028-2030) بنحو 2.6 مليار دولار.
على المستوى القطاعي، يشكّل قطاع الاسكان النسبة الأكبر من إجمالي الاحتياجات، بحيث تبلغ 57 في المئة، تليه قطاعات التجارة والصناعة والسياحة بنسبة 17 في المئة. كما تُقدّر احتياجات قطاعات البنية التحتية بحوالي 1.0 مليار دولار، أي ما يعادل 9 في المئة من الاجمالي. في حين تقدر احتياجات إزالة الأنقاض والنقل وإعادة التدوير والتخلص منها بنحو 105 ملايين دولار، وهي تعد من الشروط الأساسية لتنفيذ التدخلات القطاعية.
ومن المتوقع أن يتم تمويل جزء كبير من التعافي من خلال القطاع الخاص، بحيث يساهم بمبلغ يتراوح بين 6 إلى 8 مليارات دولار، خصوصاً في قطاعات السكان، التجارة، الصناعة والسياحة. ومن المحتمل أن يتطلب هذا التمويل دعماً حكومياً من حيث السياسات، وتحسين بيئة الاستثمار، وإصلاحات في القطاع المصرفي، وتوفير أدوات مالية مثل الضمانات التي يمكن أن تسهم في جذب رأس المال الخاص. كما يتضح من ذلك ضرورة توفير ما لا يقل عن 3 إلى 5 مليارات دولار من التمويل المباشر من القطاع العام، لا سيما للاستثمارات في قطاعات البنية التحتية، الزراعة، البيئة، وقطاعات التنمية البشرية مثل التعليم والصحة.